الثلاثاء، 12 يونيو 2012

رسالة من الإمام علي بن أبي طالب لولده الحسن


ومن وصيّته له عليه السلام
للحسن بن علي عليهما السلام، كتبها إليه "بحاضرين"
عند انصرافه من صفّين
مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ ، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ ، لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الْأََسْقَامِ ورَهِينَةِ الْأَيَّامِ، وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُور,ِ وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ،قَرِينِ الْأَحْزَانِ، وَنُصْبِ الْآفَاتِ ، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ فِيَما تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالْإِهْتَِمامِ بِمَا وَرَائِي ، غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَفَنِي رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْق لا َ يَشُوبُهُ كَذِبٌ. وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.

فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ـ أَيْ بُنيَّ ـ وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالْإِعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثقُ مِنْ سَبَب بَيْنكَ وَبَيْنَ اللهِ عَزّوَجَلَّ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ! أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرفيْمَا ف َعَلُواعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا! فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأََحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَار َالْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ. فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ، فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ، وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ  لِلحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُفي الْحَقِّ ! وَأَلْجِىءْ نَفْسَكَ فِي أُمُوركَِ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيز ، وَمَانِعٍ عَزِيزٍ، وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الْاِسْتِخَارَةَ ، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً ، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لاَ يَحِقُّ (23)تَعَلُّمُهُ. أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً ، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ  إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ. وَ إنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالَْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبِلَتْهُ. فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ. أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ، تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُونِيَّة سَلِيمَة، وَنَفْس صَافِيَة، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، لاَ أُجَاوُِز ذلِكَ بَكَ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ أَشْفَقْتُ  أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْرٍ لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ ، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ. وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ، وَالْإِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالْأََخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا، والْإِمْسَاك ِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّمٍ وَتَعَلُّمٍ، لاَبِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ. وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالْإِسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة. فَإنَّ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَّطَ، والْإِمْسَاكُ  عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ . فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الحَيَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَالْاِبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَاشَاءَ مِمَّا لاَ تعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ جَاهِلاً ثُمَّ عَلِمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ ! فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ وَسَوَّاكَ، وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ . وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ _ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ_ فَارْضَ بِهِ رَائِداً ، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً، فَإِنِّي لَمْ آلُك نَصِيحَةً. وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ ـ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ ـ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ. وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ ك َانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأََتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الْأََشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَةٍ. عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ. فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَنٍ، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيحٍ. يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا، وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ وَمَا اُعِدَّ لِأََهْلِهَا فِيهَا، وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا. إِن َّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرٍ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ ، فأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّهِمْ. وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ. يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلمِْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ ت ُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ. وَاعْلَمْ، أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَة ُالْأَلْبَابِ. فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ. وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَأَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الْإِرْتِيَادِ ، وَقَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ الزَّادِ، مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ، وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ. وَاعْلَمْ، أَنَّ أمَامَكَ عَقَبَةً كَؤوداً، الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالاً مِن الْمُثْقِلِ، وَالْمُبْطِىءُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ، وَأَنَّ مَهْبِطَك بِهَا لاَمَحَالَةََ إِمَّا عَلَى جَنَّة أَوْ عَلَى نَارٍ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَوَطِّىءِ الْمنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ ، وَلاَ إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ. وَاعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكفَّلَ لَكَ بِالْإِِجَابَةِ، أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَ النِّقْمَةِ، وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالْإِنَابَةِ ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى، وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ،بَابَ الْاِسْتِعتَابِ؛ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ ، فَأَفْضَيْت َإِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ ، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَك، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الْأََعْمَارِ، وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ، وَسَعَةِ الْأَرْزَاقِ. ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلتِهِ، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعَمِهِ، وَاسْتَمْطَرْتَ شآبِيبَ رَحْمَتِهِ، فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ  إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ. وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً، أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسَأَلَتُكَ فِيَما يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ. وَاعْلَمْ يَا بُنيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِْآخِرِةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ ، وَدَارِ بُلْغَةٍ ، وَطرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي، لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ يَفُوتُةُ طَالِبُهُ ،وَلاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَال سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ.
ذكر الموت
يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ  ، وَلاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ . وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ  عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ ، يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضاً،يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا،رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا، سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ ، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقيِمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي ن ِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُواهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.
الترفق في الطلب
رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ! وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً. وَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ، فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ، وَلاَ كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْروُمٍ. وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، ويُسْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ ؟! وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ بَيْنَ اللهِ ذُونِعْمَة فَافْعَلْ، فإِنَّكَ مُدْرِكٌ قِسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَ أَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ.

وصايا شتّى
وَتَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ ، وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ. وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ، وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ ، وَرُبَّ سَاعٍِ فِيَما يَضُرُّهُ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ، قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً. رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ. وَإِيَّاكَ وَالْاِتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى ، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى ، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ . بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً، لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ، وَلاَ كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ، وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ. التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، وَرُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ! لاَ خَيْرَ فِي مُعِينٍ مَهِينٍٍ ، وَلاَ فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ ، سَاهِلِ الدَّهْرَ  مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ ، وَلاَ تُخَاطِرْ بِشَيءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِيَّاك أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ . احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ  ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُونِعْمَة عَلَيْكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، لاَ تَتَّ خِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنةً كَانَتْ أَمْ قَبِيحَةً، وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً، وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ، وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَّا، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَّنهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه، وَلاَ يكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ، وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ، وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تكُونَنَّ عَلَىالْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ. وَلاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِك َ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ. وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ ، وَإِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ. اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ، فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ، وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْآدَبِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ. اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ، مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ  ، وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ  ، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ ، وَالْهَوَى  شَرِيكُ الْعَمَى، رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْغَر ِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ، مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ، وَأوْثَقُ سَبَب أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ، قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً، إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلاَكاً، لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ، وَلاَ كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ،أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ. أَخِّرِ الشَّرَّ، فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ ، وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ، مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ أَعْظَمَهُ  أَهَانَهُ، لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ، إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ. سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ. إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً، وَإِنْ حَكَيْتَ ذلِكَس عَنْ غَيْرِكَ.

الرأي في المرأة
وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ رَأَيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ ، وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ . وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مَنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَيُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ. وَلاَ تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ. وَلاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا. وَإِيَّاكَ وَالتَّغايُرَ  فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ، فَإِنَّ ذلِكَ يَدْعُوالصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ. وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا  فِي خِدْمَتِكَ. وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُول ُ.

دعاء
أسْتَوْدِعِ اللهَ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ، وَأسْأَلُهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْسَّلامُ .
لي بعض الملاحظات
1- لقد دمعت عيناي عندما قرأت هذه الرسالة التي أرسلها الإمام علي بن أبي طالب إلي ولده الحسن واستشعرت حينها وكأن أبي هو الذي يرسلها إلي ويوصيني، لكن أين أنا من أب كالإمام علي أو ابن كالإمام الحسن رضي الله عنها.

2-كنت متخوفا أو حذرا منذ سماعي عن الكتاب أثناء دراستي الجامعية وقبل أن أقرأ كتاب نهج البلاغة والتي منها هذه الرسالة، نظراً لكثرة الكلام حوله من أهل الحشو الذين لا يعجبهم سوي مؤلفاتهم هم وكتب رجالهم هم، لكنني صممت علي شراء الكتاب والإطلاع عليه، فلي عقلي الذي أزن به الأمور فوجدت فيه معارف راقية في التوحيد، ومثل إلهية سامية، ونصائح ومواعظ، و بيان وتحليل للأحداث السياسية والاجتماعية والإقتصادية، ونظام للحكم والإدارة وحدود العقل والقلب، ومشكلة الفقر والغني، والتربية والتعليم، وعهود للولاة وتنبيههم وأخلاق إسلامية راقية لا يعرفها سوي رباني لدرجة قال معها الأديب أحمد حسن الزّيات المصري : " و لا نعلم بعد رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) فيمن سلف و خلف أفصح من علي في المنطق ، و لا أبلّ منه ريقاً في الخطابة ، كان حكيماً تتفجر الحكمة من بيانه ، و خطيباً تتدفّق البلاغة على لسانه ، و واعظاً ملء السمع و القلب ، و مترسلاً بعيد غور الحجة ، و متكلماً يضع لسانه حيث يشاء ، و هو بالإجماع أخطب المسلمين و إمام المنشئين ، و خُطبه في الحثّ على الجهاد و رسائله إلى معاوية و وصف الطاووس و الخفاش و الدنيا ، و عهده للأشتر النخعي إن صحَّ تعدّ من معجزات اللسان العربي و بدائع العقل البشري ، و ما نظن ذلك قد تهيأ له إلا لشدة خلاطه الرسول و مرانه منذ الحداثة على الكتابة له و الخطابة في سبيله " .

.
3- كان الإمام محمد عبده يدرس تلامذته من هذا الكتاب ويشرحه لهم، ويري صحة نسبته إلي الإمام، بل وقام بتحقيقة،  وهو القائل " جمع الكتاب ـ أي نهج البلاغة ـ ما يمكن أن يعرض الكاتب و الخاطب من أغراض الكلام ، فيه الترغيب ، و التنفير ، و السياسات ، و الجدليات ، و الحقوق و أصول المدنية و قواعد العدالة ، و النصائح و المواعظ ، فلا يطلب الطالب طلبه إلا و يرى فيه أفضلها ، و لا تختلج فكرة إلا وجد فيه أكملها" كما أن الإمامالخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران كان من وصيته قبل موته للشباب أن يحافظوا على قراءة نهج البلاغة وأنا أنصح أي شاب مسلم غير متعصب أن يقرأ الكتاب ويري بأم عينيه ما به من درر نفيسة.

4- قال علمائنا كابن أبي الحديد المعتزلي : " و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدّل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود ، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدّل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان الذين لم يأكلوا لحماً و لم يريقوا دماً ، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس ، و تارة يكون في صورة سقراط و المسيح بن مريم الإلهي ، و اُقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرة ، ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفاً و عظة ، أثّرت في قلبي وجيباً ، و لا تأملتها إلا تذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودّي ، و خيّلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف الإمام ( عليه السَّلام ) حاله ".

وقال الجاحظ المعتزلي نابغة الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري : سمعت النظَّام يقول : " علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) محنة للمتكلّم ، إن وَفى حقّه غَلى ، و إن بخسه حقّه أساء ، و المنزلة الوسطى دقيقة الوزن ، حادّة اللسان ، صعبة التّرقّي إلا على الحاذق الزّكي "، ويكتب الجاحظ في كتابه الشهير والذي يعد أحد أركان الأدب الأربعة البيان والتبيين في الجزء الأول هذه الكلمة المعروفة عن الإمام عليه السلام: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) ثم يثني على هذه الجملة ما يبلغ نصف صفحة الكتاب ويقول:

(فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية. وكأن الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).

لو كنا ذباباً……….لأزعجنا الصهاينة!


 
791ima
 
 
يطيب لي أن أكتب عن هذا الموضوع الهام للغاية، كتابةً شاب عربي شاهدٌ علي حالة الإنهيار والضعف والخذلان العربي والإسلاميٍ، أكتب والنازية الفاشية الإسرائيلية تقتل وتدمر مدينة غزة خصوصاً وفلسطين السليبة عموماً، أكتب والغاز المصري يصل إلي اسرائيل يومياً تنفيذاً لاتفاقية كامبد ديفيد الموقعة مع تل ابيب والقاضية بتصدير 1.7 مليون متر من الغاز المصري سنويا، وفق أسعار تفضيلية ثابتة لا تخضع لآليات السوق وتحريكات الأسعار ولمدة 20 عام كاملة!

أكتب والعالم العربي والإسلامي غارق في أوحال من المشاكل والأزمات، من خلافات مذهبية وعرقية وإثنية ودينية، مروراً بخلافات سياسية واقتصادية إلي استعمار جاثم علي صدورنا ليل نهار، يرانا ويتحكم فينا، وانتهاءً بحكام وأنظمة لا مشاريع لديها ولا خبرة ولا نفاذ ولا انتماء ولا رؤية في الحكم أو السلطة.

أكتب و دولنا العربية والإسلامية تمارس حصاراً مضاعفاً علي غزة وأهالي غزة، فتقوم هي بنفسها بمنع التحويلات الإغاثية وغلق الحدود والمعابر بحجة الاتفاقات الدولية والقوائم الإرهابية الأمريكية!! وكأن المجازر اليهودية في الداخل هي غاية الالتزام، وكأن الذين يموتون هناك من جراء هذا الحصار مخلوقات قادمة من المريخ لا تمت لنا ولا للبشرية بصلة!!.

أكتب والمعاناه وحرب الإبادة الجماعية تطول نحو مليون ونصف مسلم فلسطيني في غزة، والحصار الخانق مفروض منذ يونيو 2007 حين حررت حركة المقاومة الإسلامية حماس القطاع من الخونة والعملاء ففروا كالفئران، وفي اليوم المشؤم الموافق 17-1-2008  فرضت إسرائيل إغلاقا تاما على غزة فحرمت أهالي القطاع من احتياجاتهم الأساسية.
 
أكتب وأطلب من قارئي الكريم أن يصبر معي فسأتحدث هذه المرة بلغة الأرقام وهي من اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار ومن وزارة الصحة الفلسطينية….علها تفصح عن أشياء لم تكن بالحسبان…..علها تفيق النيام!!

أكتب وفي دول الخليج أو بالأحري بلاد الجزيرة العربية، يعيش أغني أغنياء العالم وفق ما كتبته مجلة فوربس الامريكية من أمراء ومشايخ ورجال إفساد –عفواً- أعمال، وأموال المسلمين المنهوبة تُودع في بنوك الغرب وبلاد العم سام لتصل بكل سلاسة إلي الصهاينة الملاعيين، لتُستثمر أموالنا في بناء البلاد الغربية- ثم تحاول بعض الأنظمة المتدثرة بلباس الشرع وتطبيق الشريعة تجميع بعض الجنيهات والريالات من البسطاء المسلمين لمساعدة أهلينا في فلسطين وليتها تصل أصلا وهي في عطائها هذا لا تُعطي عشر ما تعطيه لتل أبيب-  بينما معدل الفقر في قطاع غزة الآن يصل إلى 80% ، ومعدل البطالة إلي 85% .
 
أكتب والحقيقة أقسي وأصعب، فهل يعلم قرائي الأعزاء أن 90% من كمية الوقود في غزة غير متوفرة، والكهرباء توقفت، وبالتالي أصبحت المشكلة مركبة عندما يتم قطع الكهرباء لا تجد المولدات الوقود اللازم لها وهذا أثر بشكل خطير على الحياة اليومية.
هذا فضلا عن الكارثة البيئية التي نتجت عن توقف كل محطات المعالجة في غزة والجنوب التي تعالج مياه المجاري والتي تضخ كل يوم أربعين مليون لتر من مياه المجاري الخام، دون أي معالجة إلى البحر مباشرة، وسبب هذا كارثة إنسانية وييئية تؤثر على الثروة السمكية وعلى شواطئ البحار وعلى البحر نفسه، مما سيكون له آثار مستقبلية خطيرة وخطيرة جدا، بخلاف ما يزيد علي 3000 عامل صيد بلا عمل، حتى الهواتف توقفت بشكل كامل، حتي آبار المياه توقفت، و أكثر من 30% من المتاجر أغلقت أبوابها، و100% من مصانع النسيج أغلقت أبوابها، منازل هُدمت على رؤوس أصحابها، عائلات بكاملها أبيدت. أوضاع لا يمكن أن توصف أو تصدق، هذا بخلاف القتلي والجرحي والمصابين إصابات خطيرة أو قليلة.

هل تعلمون يا سادة أن حركة العمال توقفت تماما بسبب منع إدخال أي مواد خام أو أي مواد تساعد العمال على أن يعملوا في مصانعهم، فأكثر من 33 ألف عامل في الشوارع!!!! ألم نفكر كيف يعيشون؟  مع من يعولون؟  كيف ينفقون؟ ومن أين يأكلون ويشربون؟ مايزيد علي  3900 مصنع أُُغلق، وتعطلت بسبب هذا الإغلاق، مشاريع البنية التحيتة ومشاريع الإنشاءات، وتعطل جراء ذلك أكثر من 50 ألف عامل عن العمل، ، و96% من المصانع تم إغلاقها، أما المشاريع الزراعية فتوقفت وتضررت بشكل خطير، وتعطل أكثر من ثلاثين ألف عامل في الزراعة، وبلغ إجمالي العمال الذين تعطلوا عن العمل هذه الفترة حوالي 140 ألف عامل، هذا بخصوص الإقتصاد بإيجاز شديد مخل.
 
أما عن الصحة فهناك ما يزيد علي ال1562 مريض بحاجة إلي علاج خارج القطاع، وعدد الذين استقبلتهم مصر في العريش مُخزي وغير مُرضي إطلاقا، وأكثر من 130 صنف من الدواء نفذت من القطاع،  مشاريع المباني والمستشفيات والعيادات والمقدرة بأكثر من 10 مليون دولار توقفت بسبب عدم دخول الإسمنت وكل المواد اللازمة له، 56% من سكان غزة هم من الأطفال هؤلاء ضمن دراسة أعدتها منظمة الصحة العالمية واليونيسف يعانون من نقص في الحديد ومن فيتامين A ، فيتامين من اليود، وتتحدث دراسة أخري عن أن 64% من هؤلاء الأطفال مصابين بمرض فقر الدم، 30% من أطفال غزة يعانون من أمراض نفسية مختلفة نتيجة القصف الإسرائيلي، أصبحت لغة الأطفال اليوم فيما بينهم سواء في التعبير أو في اللعب أو في حتى الرسومات أو في الواجبات كله صورة طائرة، صورة قصف، صورة شهيد، صورة مصاب، كل هذا له انعكاسات خطيرة على نمو الأطفال عقلياً وجسدياً.

هناك بضائع لرجال أعمال فلسطينيين تقدر بحوالي 150 مليون دولار تم استيرادها بشكل رسمي وبشكل قانوني وحسب النظام التجاري الدولي، وتم دفع ثمن هذه البضائع ودفع أيضا الجمارك المطلوبة منها وتم احتجازها في الموانئ الإسرائيلية منذ 8 أشهر وحتى الآن ولم يسمحوا بإدخلها إلى قطاع غزة بل ويطالبون رجال الأعمال بدفع غرامة تأخير على عدم تمكنهم من إحضارها إلى غزة أي ظلم هذا!!
 
وانظر أخي القاريء معي إلي هذا الوطن العربي الإسلامي حيث يبلغ مستوى معدل دخل الفرد السنوي للمواطن الفلسطيني في غزة 650 دولار فقط ، بينما يبلغ متوسط  دخل الفرد الاماراتي 20.000 دولار سنويا!! ومتوسط دخل الفرد في الكويت 17.000 دولار سنويا!!! ألم نسمع ما  قاله الإمام علي بن أبي طالب ما جاع فقير إلا بما مُتع به غني، وربما يقول لي أحدهم: وما دخل هذا بذاك، وأجيبه علي الفور، عندما تم إحتلال المحمية الأمريكية المسماه بالكويت بدأت الكتابات والخطب والمقالات والفتاوي حول التعاون العربي الإسلامي وضرورة نصرة الإخوة هناك من الإحتلال العراقي الغاشم ونصرة المظلومين الكويتيين….الخ واستقبل النظام السعودي بعض الفارين من بلادهم وعلي رأسهم أميرهم!!، وعلي الفور أُقيمت لهم فيلات في المنطقة الشرقية لا تزال خاوية إلي الآن علي عروشها…..، وسعي الجميع إلي دفع البلايين والمليارات للشيطان الأكبر لتحرير سكان وأرض الكويت،- لا حظ أخي القاريء أن عدد سكان غزة أكبر من عدد سكان الكويت!-  إنها إذاً لعبة المستعمر، بينما يُذبح الفلسطينيون علناً والأمر لا يعني أحد.
 
هناك استهداف للعملية التعليمية في قطاع غزة، فالعديد من المدارس الآن لا يوجد بها كتب مدرسية، والجامعات الفلسطينية تتعرض لخطر شديد بسبب عدم تمكن طلاب الجامعات من دفع الرسوم الجامعية لها، وتوقفت كل أعمال المباني والمنشآت والتطوير في الجامعات الفلسطينية بشكل عام وكذلك التجهيزات وكل ما يتعلق بهذه الجامعات من تطور هو مجمد حتي الآن.
 
إنني أحد المقتنعين بأن ما يحدث علي أرض فلسطين المحتلة هو لُب الصراع، وجوهر الخلاف بين مشروعين في المنطقة العربية الإسلامية: المشروع الإستعماري الغربي المتصيهن والذي تدعمه الأنظمة العربية علي استحياء تارة وبفجاجة تارة أخري، - ولنذكر الإستقبال الرسمي الخليجي الحافل للمجرم الجزار بوش وساركوزي ورقصته الشهيرة مع حكام البحرين والسعودية والكويت، ولعبه بالصقور مع آل نهيان في الإمارات!! يا سبحان الله هكذا يصير الدم ماءً،- والمشروع الحضاري الإسلامي المقاوم والممانع، والذي تدعمه الحركات الإسلامية سواء كانت شيعية في لبنان أو إيران أو سنية في فلسطين والعراق والصومال وأفغانستان، وهنا مربط الفرس.
 
 
في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها الأمة الإسلامية لا يسعني إلا أن أتذكر المشروع الإصلاحي النهضوي، للثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني مزلزل الشرق بأكمله، الذي شاهد أحوال المسلمين وهي شبيهة بأحوالهم اليوم من ضعف الهمم، والجبن والخوف، والرضي بالدونية والإنحطاط، قال مخاطبا المسلمين في الهند عندما كان الإستعمار الإنجليزي جاثما علي صدورهم هناك مقولته الشهيرة لو كنتم ذباباً….لأزعجتم انجلترا.
 
كان الأفغاني رحمه الله فكراً تجسد فعلاً، ولعل الرئيس الجزائري أحمد بن بللا قد أصاب عندما وصفه بحقنة من الكظرين (الأدرينالين) التي أنعشت جسد الإسلام. 
ترى كم حقنة من الأدرينالين نحتاجها اليوم؟.
 
 
إننا في مسيس الحاجة الى فعل الكثير، آآآآه لو كنت طبيبا…….لو كنت إعلاميا …..لو كنت سياسيا….لو كنت رجل أعمال……لو كنت…..لو كنت…..لكنني عبد من عباد الله لا أملك سوي نفسي وقلمي……..لا أملك سوي الدعاء والتبتل…….لا أملك سوي أن أدعو…..وأن أكتب….أذكر حينما شاهدت عدداً من صور الدمار والقتل لم تتمالك عيني دموعها، وفطر الدمع منها، وقلت في نفسي: أين هذه الشعوب العربية الإسلامية؟ أين هي؟ أهي حية أم ميته؟ أهي حبيسة أم مرتهنة؟ أهي لا هية أم واعية؟ كيف أفسر احتشاد الملايين في مصر والعالم العربي يوم مباراة كأس الأمم الإفريقية حول نصر مزعوم!!! وخروج عدد منهم أفراداً وجماعات للتشجيع والصراخ والتأييد، وعلي ماذا علي كرة ؟!!! بينما لا يحتشد نصفهم أو ربعهم أمام نقابة المحامين أو علي سلالم الصحفيين!!! أين الشعوب الساهية المخدوعة؟ المخدرة النائمة! علي قنوات روتانا والإم بي سي والإيه آر تي صاحبة التمويل الخليجي..!! يشاهدون العري والخلاعة باستمتاع ولذة….
 
 
كأن الشاعر الشاهد علي غروب الأندلس أبي البقاء الرندي يعيش معنا ويستصرخ الأمة من جديد قائلاً:
 
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم       قتلى  وأسرى  فما  يهتز   إنسان
ماذا  التقاطع  في  الإسلام   بينكم       وأنتم   يا   عباد   الله    إخوان
ألا   نفوس   أبيات   لها  همم           أما  على  الخير  أنصار  وأعوان
 
ألوم الشعوب، فالبقاء لله….طالما هذه الأنظمة في الحكم سنظل هكذا نصرخ ونستجدي، بينما هم أوهن من بيوت العنكبوت ، فلا الحكام العرب الآن سيفعلون شيئا حقيقيا…….ولا علماء السلطان والموظفون المعممون سيتحركون….ليس أمامنا إلا أن نبتكر وسائل، للتحرك………للإحتجاج……..للمطالبة…للصراخ حتي……
 
 
فإني أري النصر علي أيدي رجال المقاومة البواسل، اللذين يصنعون من بسيط الأمور أسلحة في قلب المحتل، فهم رأس الحربة، الذين يرفعون عن الأمة الإحتلال، ويدفعون ضريبة الخزي والعار، فصبراً أيها الأسود فأنتم السادة….وأنتم القادة….بصمودكم الأسطوري البطولي.
 
أما نحن، فلو كنا ذباباً لأزعجنا الصهاينة…..فلا بعض العشرات هنا أو هناك تشفي غليلي، ولا بعض الهتافات علي السلالم سترفع الإحتلال، فقديما قال أبوتمام:
 
السيف أصدق إنباء من الكتب      في حده الحد بين الجد واللعب
 
 
إنني أتذكر قول الله تعالي ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين
 
وهذا أضعف الايمان.

الشهيد سيد قطب يكتب: القاهرة الخداعة !


القاهرة الخداعة!!!
 
 qotb
  
  
ما أكذبك أيتها “القاهرة” وما أشد خداعك، لمن لا يعرفون منك إلا بعض جوانبك البراقة! إنك لتلوحين –أيتها القاهرة- جميلة فاتنة، سعيدة باسمة، عنية ممتعة، راقية متحضرة، تفوح منك العطور، وتتفتح فيك الزهور، وترن الضحكات العذبة في جنباتك وتتخايل مظاهر النعمة علي سيمائك فتتم الخدعة، وتنطلي الكذبة….ولكن علي من لا يعرفون ومن لا يفتشون!
 
ولكنك – أيتها القاهرة- في حقيقتك قبيحة شائهة، شقية بائسة، فقيرة معذبة، جاهلة متخلفة، يفوح منك الأسي وينضح عليك الشجن، وتدوي الصرخات الأليمة في ربوعك وتكمن الأنات الوجيعة في ضلوعك، وتتكشفين عن سحنة كابية مريضة، وجثة دامية سقيمة لمن يكشف عنك أول ثوب من ثيابك، ولمن يفتش في ثناياك وأحنائك.
 
أنت – أيتها القاهرة - جميلة هناك في الزمالك وجاردن سيتى والدقي وشارع الهرم وسليمان باشا والمعادي وحلوان ومصر الجديدة وحليمة الزتون….إلي آخر مفاتنك ومباهجك حيث تعيشين هنالك في القصور، وحيث تسهرين مع باريس وفيينا وجينيف، وحيث تعاصرين ألف ليلة وليلة، وحيث لياليك الحمراء المسحورة، وكؤوسك المترعات المتوهجة….هنالك حيث تلعب النشوة مشعشة برأسك المفتون، فلا تشعرين بكل ما في جسمك من آلام وبثور!
 
وأنت – أيتها القاهرة- شائهة زرية، جائعة مريضة، شقية منكودة، هنالك في المدابغ وزينهم ودرب البزازرة وحارة أبولحاف، ودرب القرودي ودرب عجور وخوش قدم والمغربلين وطيلون….إلي آخر مقابحك ومقاذرك، حيث تعيشين هنالك في مغاور الزنوج وشعب الأحقاف ومناقع الصين ومجاهل التاريخ.
 
إن رنين الكؤوس – أيتها القاهرة- وعربدة السكاري، وقهقهة السعداء، وضجيج السيارات الفخمة، ووهج الأضواء المتراقصة يوم كانت فيك أضواء ليغطي علي أنين المرضي وصرخات الجياع ودموع المحزونين وآلام البؤساء، وظلام القبور التي يعيش فيها أولئك المنسيون!
 
اسمعي أيتها القاهرة الخادعة المخدوعة بعض ما يقوله فيك رجال لا مطعن في نزاهتهم ولا ريب في إخلاصهم، ولا شبهة في تحريهم الصدق فيما يقولون، والقصد فيما يصورون…
 
اسمعي الرجل الكريم النبيل “أحمد حسنين باشا” رائد “مجلة الرواد” تلك المنشأة المتواضعة الرفيعة الصامتة العاملة، تلك التي يحاول بها مع زملائه الكرام المجهولين علاج بعض ما في جسدك من دمامل وبثور! إنه يقول:
 
” أمنا – بفتح الألف وكسر الميم وتشديد النون- من لم يغش حياً بلدياً من أحياء القاهرة؟ ماذا إذن في مثل هذا الحي نري؟ إننا لنقع علي حياة رخيصة فردية مظلمة منحطة، نري طرقاً ضيقة قذرة، أزقة مبتلة متسخة، فضلات ملقاة علي الجانبين، مساكن كالكهوف ضيقة ضئيلة منكمشة، مآوي متداخلة بعضها في بعض كأنما أعدت لطائفة من الأشباح، ليس فيها منفذ لشمس أو مسرب لهواء، رجالاً خائرين كأنما يستبطئون مقدم الموت، العامل فيهم أداة سقيمة صماء لا رأي له في شيء ولا يفكر إلا في أفق أولي غاية في الضيق، والمعطل منهم لائذ بالمقهي، يقضي يومه بين أن يسمع شراً أو يأتي شراً أو يفكر في شر.
رجال قنع خاملون، نهشت المخدرات هياكلهم نهشا، نامت فيهم كرامتهم، وضاعت منهم كبرياؤهم، وانتفي فيهم كل معني من معاني القومية، لا نخوة لهم ولا خلاق، تضيع حقوقهم فيستنيمون، ويُنال من عزتهم فلا يشعرون، ما أيسر أن يضيمهم مضيم، وما أسهل أن يستهين بهم مستهين، لا يدركون أنهم شيء يجب أن يحسب له حساب، ولا يقدرون لأنفسهم وزنا في نظر الناس، لأنهم لا يقيمون لأشخاصهم هذا الوزن في نظر أنفسهم.
 
أولئك هم رجال الحي، نساؤه فقد طُمس عليهن، فشاعت القذارة في أنفسهن وبيوتهن وأولادهن. في هذا المحيط المظلم وفي تلك البيئة التي أفسدها الجهل والأمية ينشأ الطفل مهملاً متأثراً بأخلاق هذا الوسط، وتنشأ البنت مُحملة تراث هذا العرف الاجتماعي السيء. والأطفال الذين تتولي أمرهم وهم صغار، هم الذين يتولون أمر أبنائهم وهم كبار، وبنت اليوم هي أم الغد، والأم هي الأمة”
 
 
  
تلك – أيتها القاهرة- صيحة أحمد حسنين باشا، فاسمعي كلمة حافظ عفيفي باشا ذلك الطبيب الاقتصادي الحريص علي ألفاظه المقتصد في تعبيراته، الهاديء في تفكيره، المحقق في تصويره، إنه يقول: ” لقد اشتغلت بالطب عشرين سنة في مدينة القاهرة، ولا أظن أن هناك ركنا من أركان العاصمة المجهولة لم تطأه قدماي، ولا يوجد شارع أو حارة أو زقاق في مدينة القاهرة إلا دخلت بيتاً فيه لمعالجة طفل مريض. ولذلك رأيت ما لم ير غيري فرأيت عجباً: رأيت الأزقة التي لا تتسع لأكثر من شخص واحد يسير فيها، والتي يمكن للساكنين علي جانبيها أن يقفزوا من بيت إلي بيت بكل سهولة، ودخلت بيوتا تنبعث منها الروائح المهلكة، وتعلو جدرانها الرطوبة صيفاً وشتاء، ولا شمس ولا هواء، ولا نور ينفذ إليها. دخلت منازل جدرانها وسقوفها من صفائح البترول القديمة، تسكن الحجرة الواحدة أسرة مكونة من الأب والأم والأولاد، ويعيش معهم أحياناً بعض الحيوان أو الطيور المنزلية، ولست أبالغ في هذا الوصف فليس من الصعب علي كل من يريد التأكد من حقيقة الأمر أن يذهب إلي عرب اليسار أو عشش الترجمان ليري بعينيه ما أصف الآن، بل استطيع أن أدله علي حي من أحياء القاهرة لا يبعد إلا بضعة أمتار عن شارع القصر العيني فإنه يجد في هذا الحي منطقة يصعب أن نري مثيلها في بلاد الكنغو أو في أقاصي السودان، يوجد “تل زينهم” بمناظره المدهشة، وحاراته التي لا يزيد عرضها عن المتر، ومنازله المتداعية للسقوط والمبنية بالطين والصفيح ونحو ذالك.
 
وتل زينهم الذي ضرب به الدكتور حافظ عفيفي باشا مثلا للأحياء القذرة والذي لا يبعد علي حد قوله إلا بضعة أمتار عن شارع القصر العيني، وصفه الاستاذ محمد عبدالكريم في جولة له بالقاهرة المجهولة في “مجلة الشؤن الاجتماعية” وصفاً صادقاً رهيباً تقشعر لهوله الأبدان وهو يقول”
 
وارتقينا ربوة عالية، فإذا بنا نشرف علي واد فسيح اجتمع له الماء والهواء وسعة الصحراء، ولكنه ماء آسن راكد، وهواء فاسد خانق، وصحراء متربة ليس فيها سوي الركام والأنقاض، هذا هو حي المدابغ، وإن شئت فقل هو حي الوباء ومصدر الأمراض والأدواء، وما ظنك بمكان لا تري فيه إلا كل قبيح ولا تشُم إلا كل كريه؟ سرنا فيه بين أوحال وقنوات تجمع فيها ماء المدابغ المتخلف من تنظيف الجلود وظل بها حتي زاد فساداً ومليء وباء.
 
 
 
وانتقلنا إلي مدابغ الحور والجور وجلود الماعز وما شابهها فكادت المياه المتخلفة أمامها تعوقنا عن دخولها لولا تضحيتنا بنظافة أحذيتنا وجواربنا في سبيل بلوغ غايتنا.
 
دخلنا المدابغ فهالنا ما رأيناه بها: صبيه ورجالاً عرايا لا تسترهم إلا خرق صغيرة يعملون وقد اختلط عرقهم بنفايات الجلود ودمائها، غائصين في الماء الآسن إلي سيقانهم.
 
وتقدم لنا صاحب المدبغة، فسألته عن حال العمال فقال: معدن….أحسن منا نحن أصحاب المدابغ، أجور عالية وصحة كاملة وساعات شغل طبق نص القانون، انظر إلي الأجزخانة التي عملناها تنفيذاً لأمر مصلحة العمل وأشار إلي صندوق صغير به بعض زجاجات صغيرة وقليل من القطن، يشتغل عمال المدابغ في الوضع الذي وصفته عشر ساعات في اليوم، وأكثرهم لا يتقاضي أجراً ثابتا، بل يعملون بما يسمونه “الطريحة” فتري العامل كالآلة يعمل دائبا مستميتا لأنجاز أقصي ما يمكن، وهو رغم ذلك لا يكاد يحصل علي كفافه إذ لا يتجاوز أجر الرجل في المتوسط ستة قروش في اليوم، والغلام قرشاً واحداً.
“وقد سألت البعض كيف يقوي العمال علي احتمال الجو الخانق الذي لم نطقه لحظات فقال” البركة في الشاي والنشادر” إذ كلما أغمي علي أحدهم عمل علي إفاقته بالنشادر وأعطي قليلاً من الشاي لينهض ويعود إلي مغالبة الموت ومواصلة الكفاح في سبيل العيش.
 
علي أن هناك فريقاً من العمال يعملون في ما هو أبشع مما رأينا وأشنع. إذ يقتضيهم عملهم أن ينزلوا عراة في أحواض الجير ويمكثوا فيها طول يومهم. ولسنا ندري كيف يقوي هؤلاء المساكين علي احتمال نار الجير الكاوية؟
 
أيتها القاهرة الخادعة المخدوعة، أسمعت بعض ما يُقال فيك، وعرفت بعض ما أنت به مبتلاه، إنني علي يقين أيتها القاهرة أنك لم تكوني تشعرين بهذه الأدواء. إن السعداء فيك لم يعرفوا ولن يعرفوا شيئاً عن هذه الأحياء. إن طرقاتها الضيقة لا تتسع لمرور عرباتهم الفخمة، فكيف إذن يعرفونها؟ وإن روائحها الكريهة تؤذي معاطسهم الرقيقة فكيف إذن يقصدونها؟ إنك معذورة أيتها القاهرة لأنك ثملة بنشوة الكؤوس والضجيج، وإنهم معذورون لأنهم في شغل عن هذا بالقصف والعجيج.
 
ولقد سمعت أخيراً – أيتها القاهرة- أن وزير الصحة هالته هذ الحال، ورثي للمنكوبين التعساء في أحيائك الفقيرة، فألف لجنة برياسة مفتش صحتك لبحث مشروع يرمي إلي إنشاء منتزهات في أنحائك علي بعض الأراضي الفضاء والخرائب التابعة لوزارة الأوقاف، وأن عدد الأماكن التي اختيرت في مختلف أنحائك بلغت ثلاثا وأربعين قطعة تبلغ مساحة أصغرها ثمانية آلاف متر. وأن نفقات المشروع تقدر بحوالي ستين ألف جنيه.
 
 هذا ما سمعته نقلا عن صحيفة الأهرام، وإنني لأخشي أن تضني بهذه الستين ألفاً أو بعضها تخلقين به رئات تتنفس بها هذه الأحياء المختنقة، فعهدي بك بخيلة ضنينة بكل قرش ينفق في سبيل الأشقياء المحرومين، كريمة سخية بالمئات والألوف في سبيل السعداء المحظوظين.
 
وإنني لأخشي مرة أخري أن يلجأ أولئك المساكين الذين تهدم أكواخهم لتنشأ علي أرضها المتنزهات إلي أرض أخري يبنون عليها الأكواخ، وإلا فأين يذهبون أيتها القاهرة الفاتنة؟ أيذهبون للإقامة في الزمالك وجاردن سيتي وحلمية الزيتون؟
 
من يدري أنك لا تفكرين هكذا؟ وأنك لا تعجبين أشد العجب لهؤلاء الذين يبنون أكواخهم بالصفيح والطين: فلم لا يتخذونها من المسلح والمرمر والجرانيت؟ ولهؤلاء الذين يأكلون الفضلات ويطعمون الخبز الحاف. فلم لا يأكلون “البفتيك والكافيار”، ولا يطعمون “البقلاوة والجاتوه” إنهم مجانين! أي والله أيتها القاهرة – مجانين.
 
اسمعي – أيتها القاهرة- إنك لتحسنين صنعاً لو أفقت نم النشوة لحظة، وأفاق معك المحظوظون، فإن فعلت فقولي – بحقك- للسعداء أن يستمعوا مرة واحدة للأشقياء. قولي لهم إن العالم كله يثوب إلي رشده، ويفيق علي صوت المدافع وأزيز الطيارات، فناشديهم أن يجاروا هذا العالم وهو يثوب إلي الرشاد.
 
قولي لهم أو قولي للحكومة تقل لهم، إن كانوا لا يستمعون إلا لصوت الحكام!
  
 
لي بعض الملاحظات علي المقال:
 
1-   كثير من الإسلاميين يهتمون بسيد قطب بعد أن كتب “العدالة الإجتماعية في الإسلام” وأهداها إلي الإخوان المسلمين، وما بعدها من كتابات إسلامية محضة وينسون أو يتناسون سيد قطب كمراحل متتابعة.
 
2-   لا تزال هذه الملاحظات والآثار التي كتبها الشهيد سيد قطب قائمة حتي الآن، أشعر أن الشهيد يعيش معنا بكل ما كتبه، رغم أن هذه المقالة مكتوبة في عام 1941 في مجلة الشؤن الإجتماعية.وكأنه يرصد ما نراه اليوم في شوارع وزقاق وحواري القاهرة، وهو ما يدل علي أن كل ما مر بهذه البلاد كان عبثا، وليس لصالح الطبقات الفقيرة والمطحونة والمضطهدة والمسحوقة.
 
3-   ليت كُتابنا الإسلاميين أو ذوو المرجعيات الإسلامية يتعلمون من أستاذهم قطب في اهتمامه بالقضايا العمالية والقضايا الاجتماعية والفقراء والمضطهدين والمعوزين، بدلاً من أن يتركوا الساحة خالية لغيرهم، ثم تُؤخذ عليهم…..بدعوي لم لم يتكلم الإسلامين عن….
 
 
4-   أنا أحد المقتنعين بأن كتابات وآراء ومواقف الشهيد سيد قطب لم تُدرس حتي الآن بعناية، وبدقة، وبعلمية، وحيادية، فأغلب الكتابات التي تناولت الرجل كانت مؤدلجة، وموجهة، ومتحيزة، ويكفي أن يُزور المدعو رفعت السعيد أحد أقطاب حزب التجمع الكرتوني في مصر صورة الشهيد بكتاباته السطحية ليتم تزيف وعي جيل بأكمله.
 
5-   لا جدال في أن الشهيد كان رمزاً من رموز الإصلاح والثورة الفكرية، مهما قال عنه المبطلون والمزيفون فقد قال” إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد وأنها لا تجئ عن طريق إحداث انقلاب”.
 
6-   يكفي للشهيد أنك عندما تقرأ له تشعر بأن حرارة قوية تسري في جسدك، تحاول أن تفعل شيئاً، كلماته قوية، ومؤثرة، ونافذه، رحم الله شهيد الأمة الذي قدم أغلي ما يملك في سبيل الله.
 
لمزيد من المعلومات عن الشهيد: سيد قطب زوروا الموقع التالي:
http://qotob.jeeran.com

المنفلوطي يكتب: الأدب الكاذب


121078
قال المنفلوطي في النظرات ج(3) ص(29) طبعة دار الثقافة:
   
الأدب الكاذب

كُنّا وكانَ الأَدَبُ حالاً قائمةً بالنَّفسِ تَمنعُ صاحبَها أَنْ يُقْدِمُ على شرٍّ، أو يُحدِّثَ نفسَه به، أو يكونَ عَوْنًا لفاعليه. فإن ساقَتْهُ إليه شهوةٌ من شهواتِ النَّفسِ، أو نزوةٌ من نزواتِ العَقْلِ، وَجَدَ في نَفسِه عند غشيانِه من المضَضِ والارتماض ما ينغّصُه عليه ويُكدِّرُ صفوَه وهناءَه.

ثُمَّ أصبحنا، وإذا الأدبُ صُوَرٌ وَرُسومٌ، وحركاتٌ وسكناتٌ، وإشاراتٌ والتِفاتاتٌ، لا دخلَ لها في جوهرِ النَّفسِ، ولا علاقة لها بشعورِها ووجدانِهافأحْسَنُ الناسِ عند الناسِ أدبًا وأكرمُهم خُلُقًا، وأشرفهُم مذهبًا، من يكذبُ على أن يكونَ كذبُه سائغًا مُهَذَّبًا، ومن يخلفُ الوعدَ على أن يُحسِنَ الاعتذارَ عن إخلافِه، ومن يبغضُ الناسَ جميعًا بقلبِه على أن يُحبَّهم جميعًا بلسانِه، ومن يقترفُ ما شاءَ من الجرائمِ والذُّنوبِ على أن يحسنَ التَّخلُّصَ من نتائجِها وآثارِها.

وأفضلُ من هؤلاءِ جميعًا عندهم أولئك الَّذين برعُوا في فنّ (( الآداب العالية )) أي فنِّ الرِّياءِ والنِّفاقِ، وتفوَّقوا في استظهارِ تلك الصورةِ الجامدةِ التي تواضعَ عليها (( جماعة الظُّرفاء )) في التحيّة والسَّلامِ. واللِّقَاءِ والفِرَاقِ؛ والزّيارةِ والاستزارةِ، والمجالسةِ والمنادمةِ.

وأمثال ذلك مما يرجعُ العلمَ به غالبًا إلى صغرِ النَّفسِ وإسفافِها، أكثر مما يرجِعُ إلى أدبِها وكمالِها؛ فكأنَّ الناسُ لا يستنكرون من السَّيِّئَةِ إلاَّ لونَها؛ فإذا جاءَتْهُم في ثوبٍ غير ثوبِها أَنِسُوا بها وسَكَنُوا إليها؛ ولا يعجبُهم من الحسنةِ إلاَّ صُورتُها؛ فإذا لم تأتِهم في الصُّورةِ الَّتي تُعجِبُهم وتروقُهم عافُوها وزهدُوا فيها، أي أنّهم يُفضِّلون اليدَ الناعمةَ الَّتي تحملُ خِنْجَرًا، على اليدِ الخشنةِ الَّتي تحملُ بَدْرَةً، ويُؤثِرون كأسَ البلّورِ المملوءةَ سُمًّا على كأسِ الخزفِ المملوءةِ ماءً زلالاً.

ولقد سمعتُ بأُذنيَّ من أخذَ يعدُّ لرجلٍ من أصدقائِه من السيّئاتِ ما لو وُزِّعَ على الخلقِ جميعًا لَلَوَّثَ صحائِفَهُم ثمّ ختمَ كلامَهُ بقولِه : وإنّي على ذلك أحبّهُ وأجِلّه، لأنّه رجلٌ (( ظريفٌ )) !

وأغربُ من ذلك كلِّه أنّهم وضعُوا قوانينَ أدبيَّةً للمغازلةِ، والمعاقرةِ، والمقامرةِ، كأنّ جميعَ هذه الأشياء فضائلُ لا شكَّ فيها، وكأنَّ الرذيلةَ وحدَها هي الخروجُ عن تلك القوانين الَّتي وُضِعَت لها، وما عهدُنا ببعيد بذلك القاضي المصريّ الذي أجمعَ الناسُ في مصر منذ أيَّامٍ على احتقارِه وازدرائِه، لا لأنَّه لعبَ القمارَ، بل لأنَّه تلاعبَ بأوراقِ اللّعبِ في أحدِ أنديةِ القمارِ، وسَمَّوْه لِصًّا دنيئًا، والقمارُ لصوصيّة من أساسِه إلى ذُرْوَتِه.!

أعرفُ في هذا البلدِ رجلَيْن يجمعهُما عملٌ واحدٌ، ومركزٌ واحدٌ: أحدُهما خيرُ الناسِ، والآخرُ شرُّ الناسِ، وإن كان الناسُ لا يَرَوْنَ رأيي فيهما.

أمَّا الأوَّلُ، فهو رجلٌ قد أخذَ نفسَه مُنْذُ نَشْأَتِه بمطالعةِ كتبِ الأخلاقِ، والآدابِ ومزاولتِها ليلَه ونهارَه، فقرأَ فيها فصُولَ الصِّدْقِ والأمانةِ، والعفّةِ والزهدِ، والسماحةِ والنجدةِ، والمروءةِ والكرمِ، وقصصَ السُّمَحاءِ والأجوادِ، والرُّحماءِ والمؤْثرين على أنفسِهم، وافْتَتَنَ بتلك الفضائلِ افتتانًا شديدًا، ثمّ دخلَ غمارَ المجتمع بعد ذلك، وقد استقرّ في نفسِه أنّ الناسَ قد عَرَفُوا من الأدبِ مِثْلُ ما عَرَف، وفهمُوا من معناه مثلَ ما فهمَ، وأخذوا منه بمثلِ الذي أخذَ فغضبَ في وجهِ الأشرارِ، وابتسمَ في وجهِ الأخيارِ. والأوَّلون أكثرُ عددًا، وأعظمُ سُلْطةً وجاهًا، فسُمِّيَ عند الفريقين شَرِسًا متوحّشًا؛ وامتدَح إحسانَ المحسنِ، وذمَّ إساءةَ المسيءِ، والمحسنون في الدنيا قليلُون، فسُمِّيَ وَقِحًا بذيئًا حتّى بين المحسنين؛ وبذلَ معروفَه للعاجزِ الخاملِ، ومنعَه القادرَ النابه، فلم يشعرْ بمعروفِه أحدٌ، فسُمِّيَ بخيلاً؛ واعتبرَ الناسَ بِقِيَمِهم الأدبيَّةِ، لا بمقاديرِهم الدنيويّةِ، فلقيَ الأغنياءَ والأشرافَ بمثل ما يلقَى به العامّةَ والدهماء؛ فسُمِّيَ مُتَكَبّرًا؛ وقال لمن جاءَه يساومُه في ذمّتِه: إنِّي أحبُّك ولكنّي أحبُّ الحقَّ أكثرَ منك؛ فكثُرَ أعداؤه وقلّ أصدقاؤه.

أمَّا الثاني، فأقلُّ سيّئاتِه أنّه لا يفي بوعدٍ يَعِدُهُ، ولكنّه يحسنُ الاعتذارَ عن إخلافِ الوعودِ،فلا يسمّيه أحدٌ مِخْلافًا؛ وما رآه الناسُ في يومٍ من أيّامِه عاطفًا على بائسٍ أو منكوبٍ، ولكنّه يبكي لمصابِ البائسين والمنكوبين؛ ويستبكي لهم، فعُدَّ من الأجوادِ السُّمَحَاءِ؛ وكثيرًا ما أكلَ أموالَ اليتامَى، وأساءَ الوصايةَ عليهم، ولكنّه لا يزالَ يمسحُ رؤوسَهم، ويحتضنُهم إلى صدرِه في المجامِعِ والمشاهدِ كأرحمِ الرحماءِ، وأشفقِ المشفِقين؛ فسُمِّيَ الوصيَّ الرحيمَ؛ ولا يفتأ ليلَه ونهارَه ينالُ من أعراضِ الناسِ، ويَسْتَنْزِلُ من أقدارِهم، إلا أنه يخلطُ جدّه بالهَزْلِ، ومرارتَه بالحلاوةِ، فلم يعرف الناسُ عنه شيئًا سوى أنّه الماجنُ الظريفُ.

ذَلِكَ هو الأدبُ الذي أصبحَ في هذا العصرِ رأيًا عامًّا يشتركُ فيه خاصّةُ الناسِ وعامّتُهم، وعقلاؤهم وجهلاؤهم؛ ويعلّمُه الوالدُ ولدَه، والأستاذُ تلميذَه؛ ويقتتلون اقتتالاً شديدًا على انْتِحالِه والتَّجَمُّلِ به، كما يقتتلون على أعزِّ الأشياءِ وأنفسِها، حتّى تبدَّلتِ الصورُ، وانعكسَتِ الحقائقُ، وأصبحَ الرجلُ المخلصُ أحرجَ الناسِ بصدقِه وإخلاصِه صدرًا، وأضلَّهم بهما سبيلاً، لا يدري أيكذبُ فيُسخطَ ربَّه، ويُرضي الكاذبين ؟ أم يصدقُ، فيرضي نفسَه، ويُسخطَ الناسَ أجمعينَ ؟ ولا يعلمُ أيهجرُ هذا العالَم إلى عُزْلَةٍ منقطعةٍ يقضي فيها بقيّة أيامِ حياتِه غريبًا شريدًا ؟ أم يبرزُ للعيون، فيموت همًّا وكمدًا ؟
يَجِبُ أن يكونَ أدبُ النفسِ أساسَ أدبِ الجوارحِ، وأن يكونَ أدبُ الجوارحِ تابعًا له، وأثرًا من آثارِه، فإنْ أبى الناسُ إلاّ أنْ يجعلوا أدبَ الحركاتِ والسَّكَناتِ أساسَ صِلاتِهم وعلائِقهم،وميزانَ قِيَمِهم وأقدارِهم، فلْيَعْتَرِفوا أنّ العالمَ كلَّه مسرحٌ تمثيليٌّ، وأنَّهم لا يؤدّون فيه غيرَ وظيفةِ الممثّلين الكاذبين.