من ذخائر التراث العربي، ألفها ابن حزم وهو في عنفوان الشباب، لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره. واعترف في بعض صفحاته بتولعه بجارية من جواري القصر، كانت تجيد الغناء والعزف على العود، وذكرطرفاً من أخباره معها، وقص علينا خبر غنائها لأبيات العباس بن الأحنف التي أولها: (إني طربت إلى شمس إذا غربت * كانت مغاربها جوف المقاصير).. قال: (فلعمري لكأنالمضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا.
قال د. الطاهر محقق النسخة الموجودة في الأسواق: (وقد حطم ابن حزم في كتابه هذا كل الحياء المصطنع، وأتى على كلالأسوار العالية التي تعزل الفقه عن الحياة.
الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل وقد أحب من الخلفاء المهدبين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية الدعجاء، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنة أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غَزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمُطرف معلوم، والحاكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هاشم المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها. ومثل هذا كثير، ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل.
وأما كبار رجالهم ودعائم دولتهم فأكثر من أن يحصوا، وأحدث ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر بن عبد الملك بن أبي عامر بواحد، بنت رجل من الجبائين حتى حمله حبها أن يتزوجها، وهي التي خلف عليها بعد فناه العامر بن الوزير عبد الله بن مسلمة، ثم تزوجها بعد قتله رجل من رؤساء البربر.
ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن ميمون القرشي الحسيني أخبرني أن نزار بن معد صاحب مصر لم ير ابنه منصور بن نزار، الذي ولى الملك بعده وادعى الإلهية إلا بعد مدة من مولده، مساعدة لجارية كان يحبها حباً شديداً، هذا ولم يكن له ذكر ولا من يرث ملكه ويحيي ذكره سواه.
ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغنى بأشعارهم عن ذكرهم: وقد ورد من خبر عبيد الله عتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية. وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا ابن عباس رضي الله عنه مالا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه الله عن بعض أهل الفلسفة. الأرواح أكر مقسومة لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال والشكل دأباً يستدعى شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد، والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة النفار. كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها، والله عز وجل يقول: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها)، فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص من الصورة. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه. فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها. فمن ودك لأمر ولى مع انقضائه.
ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب. فأفضلها محبة المتحابين في الله عزوجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب، وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ للذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها. حاشى محبة العشق الصحيح الممكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.
وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه. وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين.
ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، من شغل البال والخبل والوسواس وتبدل الغرائز المركبة واستحالة السجايا المطبوعة والنحول والزفير وسائر دلائل الشجا ما يعرض في العشق، فصح بذاك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني. فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية، إذ الجزآن مشتركان في الاتصال وحظهما واحد فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارضة صحيحة، ولكن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلاً بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة.
ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبة له قاصدة إليه باحثة عنه مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد، فقوة جوهر المغنطيس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على أنه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه، إذ الحركة أبداً إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابس، تطلب ما يشبهها وتنقطع إليه وتنهض نحوه بالطبع والضرورة وبالاختيار والتعمد. وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب إذ لم يبلغ من قوته أيضاً مغالبة الممسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظم جرم المغناطيس ووازت قواه جميع قوى جرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود. وكالنار في الحجر لا تبرز على قوة الحجر في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر.
ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية لا بد من هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة فانظر هذا تراه عياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، وقول مروى عن أحد الصالحين: أرواح المؤمنين تتعارف. ولهذا ما اغتم أبقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك، فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه.
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى اظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء فمالك وله؟ فقال الملك: لعمري مالي إليه سبيل، غير أني أجد لنفسي استثقالاً لا أدري ما هو. فأدى ذلك إلى أفلاطون. قال: فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي أجد شيئاً أقابل به نفسه وأخلاقهما مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع في، فما هو إلا أن حركته هذه الموافقة وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحل كل ما أجد في نفسي له.
وأما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس حسنة وتولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المنقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة.
وإن للصور لتوصيلا عجيباً بين أجزاء النفوس النائية. وقرأت في السفر الأول من التوراة أن النبي يعقوب عليه السلام أيام رعيه غنماً لابن خاله مهراً لا بنته شارطه على المشاركة في إنسالها، فكل بهيم ليعقوب وكل أغر للأبان، فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفاً ويترك نصفاً بحاله، ثم يلقى الجميع في الماء الذي ترده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين، نصفاً بهماً ونصفاً غراً.
وذكر عن بعض القافة أنه أتى بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما غير شك. فرغب أن يوقف على الموضع الذي اجتمعا عليه. فأدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال لأبيه: من قبل هذه الصورة أتيت في إبنك.
وكثيراً ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في أشعارهم، فيخاطبون المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيار وغيره من المتكلمين،وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى، ولا علة، ويستثقل بعضها بعضاً بلا سبب. والحب أعزك الله داء عياء وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشهاة لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة. يزين المرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة. وسيأتي كل ذلك ملخصاً في بابه إن شاء الله.
خبر: ولقد علمت فتى من بعض معار في قد وحل من الحب وتورط في حبائله، وأضربه الوجد، وأنضحه الدنف، وما كانت نفسه تطيب بالدعاء إلى الله عز وجل في كشف ما به ولا ينطق به لسانه، وما كان دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه ولقد جالسته يوماً فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني فقلت له في بعض قولي: فرج الله عنك فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أردت بنشر هذا النص عدة أمور:
هناك مفهوم شائع - لا يخلو من غرض عند مروجيه - يربط بين الدين والجهامة، وبين الطاعة لله والحرمان من متطلبات النوازع الإنسانية. وكانت قضية العلاقة بين الرجل والمرأة من المحاور التي تمت على مسرحها معالجة وبناء هذه الصورة القاتمة عن الدين الإسلامي السمح وتعاليمه.
1- تشوه واختلاط معني ومفهوم الحب في نفوس المسلمين بين مبيح ومحرم ومكره والخلط الحادث بينهم نتيجة ما صُب في عقولهم عن معاني الحب المُستوحاه من الأفلام والمسلسلات والأغاني الماجنة مما يتنافي قطعا مع الإسلام.
2- أن للحب وجود ومكانه في القلب والنفس والعقل لكن من منظور إسلامي راقي ومعتبر ومحترم وبضوابطه الناظمة المهذبة.
3- أن من كتب هذا النص هو رجل فقيه وأصولي ومؤسس لأحد المذاهب الموجودة فلم يمنعه أن يكتب أو يعبر عن نفسه وعن مجتمعه الذي عاش فيه …تدينه ومعرفته بالشريعة .
4- من يقرأ كتاب ابن حزم “طوق الحمامة في الألفة والألاف” يري أن هذا الكتاب كُتب بروح المفكر والأديب، كما كتبه بروح الفقه، وبروح الفاهم والعارف بمجتمعه وبأسراره وخباياه وليس الدرويش الغائب التائه المنغلق.
5- روح التسامح بوجه عام كانت غالبة على الإمام ابن حزم في نظرته إلى الأحكام المتعلقة بالعشق، وعلى التوازي مع ذلك التسامح فقد شدد الإمام ابن حزم على إظهار فضل العفاف والتشنيع من جريمة الزنى، فوازن بذلك بين التسامح مع العشق كحالة خاصة ترتبط أساسًا بالعاطفة القلبية، وبين التشدد على ابتغاء الشهوات والسقوط في الفجور.
وقد ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه الداء والدواء: “وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور”.
وقال نفطويه: “دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، وآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فقد منعي منها ما حدثني أبي حدثنا أبو سويد بن سعيد حدثنا مسهر عن أبي يحيى القتاب عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: “من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة”.
0 التعليقات:
إرسال تعليق