القاهرة الخداعة!!!
ما أكذبك أيتها “القاهرة” وما أشد خداعك، لمن لا يعرفون منك إلا بعض جوانبك البراقة! إنك لتلوحين –أيتها القاهرة- جميلة فاتنة، سعيدة باسمة، عنية ممتعة، راقية متحضرة، تفوح منك العطور، وتتفتح فيك الزهور، وترن الضحكات العذبة في جنباتك وتتخايل مظاهر النعمة علي سيمائك فتتم الخدعة، وتنطلي الكذبة….ولكن علي من لا يعرفون ومن لا يفتشون!
ولكنك – أيتها القاهرة- في حقيقتك قبيحة شائهة، شقية بائسة، فقيرة معذبة، جاهلة متخلفة، يفوح منك الأسي وينضح عليك الشجن، وتدوي الصرخات الأليمة في ربوعك وتكمن الأنات الوجيعة في ضلوعك، وتتكشفين عن سحنة كابية مريضة، وجثة دامية سقيمة لمن يكشف عنك أول ثوب من ثيابك، ولمن يفتش في ثناياك وأحنائك.
أنت – أيتها القاهرة - جميلة هناك في الزمالك وجاردن سيتى والدقي وشارع الهرم وسليمان باشا والمعادي وحلوان ومصر الجديدة وحليمة الزتون….إلي آخر مفاتنك ومباهجك حيث تعيشين هنالك في القصور، وحيث تسهرين مع باريس وفيينا وجينيف، وحيث تعاصرين ألف ليلة وليلة، وحيث لياليك الحمراء المسحورة، وكؤوسك المترعات المتوهجة….هنالك حيث تلعب النشوة مشعشة برأسك المفتون، فلا تشعرين بكل ما في جسمك من آلام وبثور!
وأنت – أيتها القاهرة- شائهة زرية، جائعة مريضة، شقية منكودة، هنالك في المدابغ وزينهم ودرب البزازرة وحارة أبولحاف، ودرب القرودي ودرب عجور وخوش قدم والمغربلين وطيلون….إلي آخر مقابحك ومقاذرك، حيث تعيشين هنالك في مغاور الزنوج وشعب الأحقاف ومناقع الصين ومجاهل التاريخ.
إن رنين الكؤوس – أيتها القاهرة- وعربدة السكاري، وقهقهة السعداء، وضجيج السيارات الفخمة، ووهج الأضواء المتراقصة يوم كانت فيك أضواء ليغطي علي أنين المرضي وصرخات الجياع ودموع المحزونين وآلام البؤساء، وظلام القبور التي يعيش فيها أولئك المنسيون!
اسمعي أيتها القاهرة الخادعة المخدوعة بعض ما يقوله فيك رجال لا مطعن في نزاهتهم ولا ريب في إخلاصهم، ولا شبهة في تحريهم الصدق فيما يقولون، والقصد فيما يصورون…
اسمعي الرجل الكريم النبيل “أحمد حسنين باشا” رائد “مجلة الرواد” تلك المنشأة المتواضعة الرفيعة الصامتة العاملة، تلك التي يحاول بها مع زملائه الكرام المجهولين علاج بعض ما في جسدك من دمامل وبثور! إنه يقول:
” أمنا – بفتح الألف وكسر الميم وتشديد النون- من لم يغش حياً بلدياً من أحياء القاهرة؟ ماذا إذن في مثل هذا الحي نري؟ إننا لنقع علي حياة رخيصة فردية مظلمة منحطة، نري طرقاً ضيقة قذرة، أزقة مبتلة متسخة، فضلات ملقاة علي الجانبين، مساكن كالكهوف ضيقة ضئيلة منكمشة، مآوي متداخلة بعضها في بعض كأنما أعدت لطائفة من الأشباح، ليس فيها منفذ لشمس أو مسرب لهواء، رجالاً خائرين كأنما يستبطئون مقدم الموت، العامل فيهم أداة سقيمة صماء لا رأي له في شيء ولا يفكر إلا في أفق أولي غاية في الضيق، والمعطل منهم لائذ بالمقهي، يقضي يومه بين أن يسمع شراً أو يأتي شراً أو يفكر في شر.
رجال قنع خاملون، نهشت المخدرات هياكلهم نهشا، نامت فيهم كرامتهم، وضاعت منهم كبرياؤهم، وانتفي فيهم كل معني من معاني القومية، لا نخوة لهم ولا خلاق، تضيع حقوقهم فيستنيمون، ويُنال من عزتهم فلا يشعرون، ما أيسر أن يضيمهم مضيم، وما أسهل أن يستهين بهم مستهين، لا يدركون أنهم شيء يجب أن يحسب له حساب، ولا يقدرون لأنفسهم وزنا في نظر الناس، لأنهم لا يقيمون لأشخاصهم هذا الوزن في نظر أنفسهم.
أولئك هم رجال الحي، نساؤه فقد طُمس عليهن، فشاعت القذارة في أنفسهن وبيوتهن وأولادهن. في هذا المحيط المظلم وفي تلك البيئة التي أفسدها الجهل والأمية ينشأ الطفل مهملاً متأثراً بأخلاق هذا الوسط، وتنشأ البنت مُحملة تراث هذا العرف الاجتماعي السيء. والأطفال الذين تتولي أمرهم وهم صغار، هم الذين يتولون أمر أبنائهم وهم كبار، وبنت اليوم هي أم الغد، والأم هي الأمة”
تلك – أيتها القاهرة- صيحة أحمد حسنين باشا، فاسمعي كلمة حافظ عفيفي باشا ذلك الطبيب الاقتصادي الحريص علي ألفاظه المقتصد في تعبيراته، الهاديء في تفكيره، المحقق في تصويره، إنه يقول: ” لقد اشتغلت بالطب عشرين سنة في مدينة القاهرة، ولا أظن أن هناك ركنا من أركان العاصمة المجهولة لم تطأه قدماي، ولا يوجد شارع أو حارة أو زقاق في مدينة القاهرة إلا دخلت بيتاً فيه لمعالجة طفل مريض. ولذلك رأيت ما لم ير غيري فرأيت عجباً: رأيت الأزقة التي لا تتسع لأكثر من شخص واحد يسير فيها، والتي يمكن للساكنين علي جانبيها أن يقفزوا من بيت إلي بيت بكل سهولة، ودخلت بيوتا تنبعث منها الروائح المهلكة، وتعلو جدرانها الرطوبة صيفاً وشتاء، ولا شمس ولا هواء، ولا نور ينفذ إليها. دخلت منازل جدرانها وسقوفها من صفائح البترول القديمة، تسكن الحجرة الواحدة أسرة مكونة من الأب والأم والأولاد، ويعيش معهم أحياناً بعض الحيوان أو الطيور المنزلية، ولست أبالغ في هذا الوصف فليس من الصعب علي كل من يريد التأكد من حقيقة الأمر أن يذهب إلي عرب اليسار أو عشش الترجمان ليري بعينيه ما أصف الآن، بل استطيع أن أدله علي حي من أحياء القاهرة لا يبعد إلا بضعة أمتار عن شارع القصر العيني فإنه يجد في هذا الحي منطقة يصعب أن نري مثيلها في بلاد الكنغو أو في أقاصي السودان، يوجد “تل زينهم” بمناظره المدهشة، وحاراته التي لا يزيد عرضها عن المتر، ومنازله المتداعية للسقوط والمبنية بالطين والصفيح ونحو ذالك.
وتل زينهم الذي ضرب به الدكتور حافظ عفيفي باشا مثلا للأحياء القذرة والذي لا يبعد علي حد قوله إلا بضعة أمتار عن شارع القصر العيني، وصفه الاستاذ محمد عبدالكريم في جولة له بالقاهرة المجهولة في “مجلة الشؤن الاجتماعية” وصفاً صادقاً رهيباً تقشعر لهوله الأبدان وهو يقول”
وارتقينا ربوة عالية، فإذا بنا نشرف علي واد فسيح اجتمع له الماء والهواء وسعة الصحراء، ولكنه ماء آسن راكد، وهواء فاسد خانق، وصحراء متربة ليس فيها سوي الركام والأنقاض، هذا هو حي المدابغ، وإن شئت فقل هو حي الوباء ومصدر الأمراض والأدواء، وما ظنك بمكان لا تري فيه إلا كل قبيح ولا تشُم إلا كل كريه؟ سرنا فيه بين أوحال وقنوات تجمع فيها ماء المدابغ المتخلف من تنظيف الجلود وظل بها حتي زاد فساداً ومليء وباء.
وانتقلنا إلي مدابغ الحور والجور وجلود الماعز وما شابهها فكادت المياه المتخلفة أمامها تعوقنا عن دخولها لولا تضحيتنا بنظافة أحذيتنا وجواربنا في سبيل بلوغ غايتنا.
دخلنا المدابغ فهالنا ما رأيناه بها: صبيه ورجالاً عرايا لا تسترهم إلا خرق صغيرة يعملون وقد اختلط عرقهم بنفايات الجلود ودمائها، غائصين في الماء الآسن إلي سيقانهم.
وتقدم لنا صاحب المدبغة، فسألته عن حال العمال فقال: معدن….أحسن منا نحن أصحاب المدابغ، أجور عالية وصحة كاملة وساعات شغل طبق نص القانون، انظر إلي الأجزخانة التي عملناها تنفيذاً لأمر مصلحة العمل وأشار إلي صندوق صغير به بعض زجاجات صغيرة وقليل من القطن، يشتغل عمال المدابغ في الوضع الذي وصفته عشر ساعات في اليوم، وأكثرهم لا يتقاضي أجراً ثابتا، بل يعملون بما يسمونه “الطريحة” فتري العامل كالآلة يعمل دائبا مستميتا لأنجاز أقصي ما يمكن، وهو رغم ذلك لا يكاد يحصل علي كفافه إذ لا يتجاوز أجر الرجل في المتوسط ستة قروش في اليوم، والغلام قرشاً واحداً.
“وقد سألت البعض كيف يقوي العمال علي احتمال الجو الخانق الذي لم نطقه لحظات فقال” البركة في الشاي والنشادر” إذ كلما أغمي علي أحدهم عمل علي إفاقته بالنشادر وأعطي قليلاً من الشاي لينهض ويعود إلي مغالبة الموت ومواصلة الكفاح في سبيل العيش.
علي أن هناك فريقاً من العمال يعملون في ما هو أبشع مما رأينا وأشنع. إذ يقتضيهم عملهم أن ينزلوا عراة في أحواض الجير ويمكثوا فيها طول يومهم. ولسنا ندري كيف يقوي هؤلاء المساكين علي احتمال نار الجير الكاوية؟“
أيتها القاهرة الخادعة المخدوعة، أسمعت بعض ما يُقال فيك، وعرفت بعض ما أنت به مبتلاه، إنني علي يقين أيتها القاهرة أنك لم تكوني تشعرين بهذه الأدواء. إن السعداء فيك لم يعرفوا ولن يعرفوا شيئاً عن هذه الأحياء. إن طرقاتها الضيقة لا تتسع لمرور عرباتهم الفخمة، فكيف إذن يعرفونها؟ وإن روائحها الكريهة تؤذي معاطسهم الرقيقة فكيف إذن يقصدونها؟ إنك معذورة أيتها القاهرة لأنك ثملة بنشوة الكؤوس والضجيج، وإنهم معذورون لأنهم في شغل عن هذا بالقصف والعجيج.
ولقد سمعت أخيراً – أيتها القاهرة- أن وزير الصحة هالته هذ الحال، ورثي للمنكوبين التعساء في أحيائك الفقيرة، فألف لجنة برياسة مفتش صحتك لبحث مشروع يرمي إلي إنشاء منتزهات في أنحائك علي بعض الأراضي الفضاء والخرائب التابعة لوزارة الأوقاف، وأن عدد الأماكن التي اختيرت في مختلف أنحائك بلغت ثلاثا وأربعين قطعة تبلغ مساحة أصغرها ثمانية آلاف متر. وأن نفقات المشروع تقدر بحوالي ستين ألف جنيه.
هذا ما سمعته نقلا عن صحيفة الأهرام، وإنني لأخشي أن تضني بهذه الستين ألفاً أو بعضها تخلقين به رئات تتنفس بها هذه الأحياء المختنقة، فعهدي بك بخيلة ضنينة بكل قرش ينفق في سبيل الأشقياء المحرومين، كريمة سخية بالمئات والألوف في سبيل السعداء المحظوظين.
وإنني لأخشي مرة أخري أن يلجأ أولئك المساكين الذين تهدم أكواخهم لتنشأ علي أرضها المتنزهات إلي أرض أخري يبنون عليها الأكواخ، وإلا فأين يذهبون أيتها القاهرة الفاتنة؟ أيذهبون للإقامة في الزمالك وجاردن سيتي وحلمية الزيتون؟
من يدري أنك لا تفكرين هكذا؟ وأنك لا تعجبين أشد العجب لهؤلاء الذين يبنون أكواخهم بالصفيح والطين: فلم لا يتخذونها من المسلح والمرمر والجرانيت؟ ولهؤلاء الذين يأكلون الفضلات ويطعمون الخبز الحاف. فلم لا يأكلون “البفتيك والكافيار”، ولا يطعمون “البقلاوة والجاتوه” إنهم مجانين! أي والله أيتها القاهرة – مجانين.
اسمعي – أيتها القاهرة- إنك لتحسنين صنعاً لو أفقت نم النشوة لحظة، وأفاق معك المحظوظون، فإن فعلت فقولي – بحقك- للسعداء أن يستمعوا مرة واحدة للأشقياء. قولي لهم إن العالم كله يثوب إلي رشده، ويفيق علي صوت المدافع وأزيز الطيارات، فناشديهم أن يجاروا هذا العالم وهو يثوب إلي الرشاد.
قولي لهم أو قولي للحكومة تقل لهم، إن كانوا لا يستمعون إلا لصوت الحكام!
لي بعض الملاحظات علي المقال:
1- كثير من الإسلاميين يهتمون بسيد قطب بعد أن كتب “العدالة الإجتماعية في الإسلام” وأهداها إلي الإخوان المسلمين، وما بعدها من كتابات إسلامية محضة وينسون أو يتناسون سيد قطب كمراحل متتابعة.
2- لا تزال هذه الملاحظات والآثار التي كتبها الشهيد سيد قطب قائمة حتي الآن، أشعر أن الشهيد يعيش معنا بكل ما كتبه، رغم أن هذه المقالة مكتوبة في عام 1941 في مجلة الشؤن الإجتماعية.وكأنه يرصد ما نراه اليوم في شوارع وزقاق وحواري القاهرة، وهو ما يدل علي أن كل ما مر بهذه البلاد كان عبثا، وليس لصالح الطبقات الفقيرة والمطحونة والمضطهدة والمسحوقة.
3- ليت كُتابنا الإسلاميين أو ذوو المرجعيات الإسلامية يتعلمون من أستاذهم قطب في اهتمامه بالقضايا العمالية والقضايا الاجتماعية والفقراء والمضطهدين والمعوزين، بدلاً من أن يتركوا الساحة خالية لغيرهم، ثم تُؤخذ عليهم…..بدعوي لم لم يتكلم الإسلامين عن….
4- أنا أحد المقتنعين بأن كتابات وآراء ومواقف الشهيد سيد قطب لم تُدرس حتي الآن بعناية، وبدقة، وبعلمية، وحيادية، فأغلب الكتابات التي تناولت الرجل كانت مؤدلجة، وموجهة، ومتحيزة، ويكفي أن يُزور المدعو رفعت السعيد أحد أقطاب حزب التجمع الكرتوني في مصر صورة الشهيد بكتاباته السطحية ليتم تزيف وعي جيل بأكمله.
5- لا جدال في أن الشهيد كان رمزاً من رموز الإصلاح والثورة الفكرية، مهما قال عنه المبطلون والمزيفون فقد قال” إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد وأنها لا تجئ عن طريق إحداث انقلاب”.
6- يكفي للشهيد أنك عندما تقرأ له تشعر بأن حرارة قوية تسري في جسدك، تحاول أن تفعل شيئاً، كلماته قوية، ومؤثرة، ونافذه، رحم الله شهيد الأمة الذي قدم أغلي ما يملك في سبيل الله.
لمزيد من المعلومات عن الشهيد: سيد قطب زوروا الموقع التالي:
http://qotob.jeeran.com
0 التعليقات:
إرسال تعليق