علم الكلام المعتزلي.. وحفظ الزيدية
واليهود
عندما بدأت الدراسات في أواسط القرن
التاسع عشر، على علم الكلام اليهودي، المكتوب بالعربية منذ القرن الخامس الهجري/
الثاني عشر الميلادي، اعتقد الدارسون اليهود والبروتستانت لتاريخ اللاهوت اليهودي
(الذين ما كانوا يعرفون العربية، واعتمدوا في قراءة النصوص وترجمتها على دارسي
العربية من تلامذتهم)، أن المسلمين - والمعتزلة على الخصوص - إنما تأثروا باليهود
الذين بدأوا بالكتابة بالعربية في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. وما
استطاع أحد المناقشة في ذلك على الرغم من الشكوك فيه من جانب ماكدونالد ثم هلموت
ريتر. وعلة ذلك أن أكثر كتب المعتزلة كانت قد اختفت أو ضاعت، خاصة ما كتبوه قبل
القرن الخامس الهجري.
وقد اعتمد الدارسون للمعتزلة في الأكثر على الشذرات والاقتباسات والردود
المعتزلية الموجودة في كتب خصومهم من الأشاعرة، مثل الباقلاني والجويني والغزالي
وفخر الدين الرازي. ثم وجد نيبرغ كتاب «الانتصار» للخياط المعتزلي من القرن الرابع،
وهو في «الرد على ابن الراوندي الملحد»، ونشره بالقاهرة عام 1925.
ووجد هلموت ريتر
بإسطنبول كتاب الأشعري «مقالات الإسلاميين»، ونشره بإسطنبول أيضا عام 1928.
وهنا
اشتدت الشكوك، لأن المصطلحات الكلامية المستعملة من جانب المعتزلة وخصومهم الأشاعرة
على حد سواء متشابهة، أما المصطلحات بل والمشكلات الكلامية عند ربانيي اليهود
وقرائيهم، فتبدو كأنما هي مأخوذة عنهم. وفي الثلاثينات من القرن العشرين، لاحظ أحد
الدارسين اليهود، أن عنوان كتاب موسى بن ميمون، أحد أشهر علماء اليهود: «دلالة
الحائرين» مأخوذ من كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي الذي عاش قبله بنصف قرن فقط.
بل إنه وجد مشابهات بين العملين في كثيرٍ من الأبواب. وقد كتب ابن ميمون نسخته
العربية قبل أن يعود فيكتب النسخة العبرية بفروقاتٍ ضئيلة! لقد بقيت هذه الدراسات
حول التأثُّر والتأثير بين أخذٍ وردٍّ إلى أن اكتشفت البعثة المصرية بمكتبات اليمن
أواخر الأربعينات أجزاء كثيرة من كتاب المعتزلي القاضي عبد الجبار بن أحمد (-
415هـ) المسمّى: «المغني في أبواب التوحيد والعدل». وكان المكتَشَف 14 مجلدا من 20.
وما إن بدأ المصريون في نشر أجزاء «المغني» اليمنية بالإدارة الثقافية للجامعة
العربية بإشراف طه حسين، حتى اكتشف أحد تلامذته مجلَّدين آخرين من كتاب «المغني»
بدار الكتب المصرية. وهكذا وفي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، صدر 16 مجلدا
من «المغني» بتحقيقات متفاوتة المستوى بالنظر لأوحدية النسخة من جهة، وعُسْر أسلوب
عبد الجبار من جهة ثانية. وقد تبين لاحقا أن الأجزاء المختلفة من «المغني» منسوخة
في زمن المنصور بالله الزيدي (- 614هـ) من جانب أشخاص مختلفين، إنما في عصرٍ واحد.
وفي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حصلت كشوف أُخرى أصغر لكنها ذات اعتبار،
وأكثرها في اليمن، من مثل كتب «شرح الأصول الخمسة» لعبد الجبار وتلميذه، ودلائل
النبوة، ومتشابه القرآن، له أيضا.
وأُضيفت لذلك مخطوطات أو أجزاء بالقاهرة ولندن، كانت معروفة من قبل، إنما لم
يجرِ تقديرها، مثل «المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين» لأبي رشيد
النيسابوري (المتوفى في مطلع القرن السادس الهجري).
وقد أقبل الباحثون العرب والمستشرقون على دراسة هذه النصوص، وفرز الاقتباسات
فيها للمعتزلة الأقدم من القرن الرابع. وبدأ عندها تمييز النتاج المعتزلي؛ إذ تبين
أن المدرسة البصرية هي التي شهدت نهوضا ثانيا على يد أبي علي الجبائي (- 303هـ)
وابنه أبي هاشم (- 321هـ)، وتلميذهما عبد الجبار (- 415هـ). والمدرسة البهشمية هذه
هي التي ظلت تنتج حتى القرن السادس الهجري، حين تسلمتها الزيدية عند مجيء كتبها
لليمن في القرن الخامس على يد القاضي جعفر بن عبد السلام. وقد أعاد الزيدية
استنساخها، وطوروها، وتركت فيهم تأثيرات متباينة مع ظهور فرقة المطرفية في أوساطهم.
ثم فوجئ الباحثون بنتاجات بعضها بهشمي، وبعضها أقدم في خزانة فركوفيتش
ببطرسبورغ، وبجنيزا القاهرة، مستترة في قلب المخطوطات العبرية، وتارة بحروف عبرية
لنصوص عربية، وطورا مترجمة إلى العبرية من نصوص معتزلية عربية، فيما بين القرنين
الرابع والسادس. وقد حسب الباحثون أولا أن المتكلمين اليهود الذين تأثروا بالمعتزلة
من المدرسة البصرية هم من فرقة القرائين فقط، ثم تبين أن اليهود التقليديين (من
الربيين) استمدوا من المعتزلة أيضا، واستخدموا نصوصهم في الرد على القرائين. وقد
ظهرت منذ ذلك الحين عدة نصوص معتزلية ما كانت معروفة، مثل «تصفح الأدلة» لأبي
الحسين البصري، ومثل أجزاء من أعمال الصاحب بن عبّاد (- 385هـ)، وعبد الله بن سعيد
اللباد تلميذ عبد الجبار.
وقد استعمل المتكلمون اليهود أعمال المعتزلة بشكلين:
الأول الاقتباس والشرح والتطوير في أعمال خاصة بهم وفي مجادلاتهم فيما بينهم.
والثاني نَسْخ كتب أو أجزاء وأبواب من كتب معتزلية بعضها كامل ومحفوظ، وبعضها ضاعت
أقسام منه أو أنه لم يُنسَخْ لعدم الحاجة إليه. والفكرة السائدة منذ عمل ولفسن
الكبير عن تاريخ علم الكلام الإسلامي واليهودي، أن علم الكلام اليهودي ما تأثر بعلم
الكلام المعتزلي فقط، بل إنه تأسّس عليه ومنذ القرن التاسع الميلادي/ الثالث
الهجري.
إن المناسبة المستجدة لهذا الموضوع كله هو نشر «نُكَت» من كتاب «المغني» للقاضي
عبد الجبار، وهو مختصر منقَّح منه يتضمن الكلام في التوليد، والكلام في الاستطاعة،
والكلام في التكليف، والكلام في النظر والمعارف. وتستند هذه النشرة إلى أربع
مخطوطات، ثلاث منها من مكتبة فركوفتش بسانت بطرسبورغ، ومخطوطة بالمتحف البريطاني.
وقد احتار الباحثان عمر حمدان وسابينا شميدكه أولا في هذه القِطع التي نسخها يهود
فيما يبدو. فهي مختلفة بعض الشيء عن المنشور في طبعة القاهرة، التي يبدو أنها كانت
النسخة الأخيرة لعبد الجبار، والتي نسخ عنها اليمنيون. إذ يبدو أن عبد الجبار قضى
عقودا في تنقيح موسوعته وتوسيعها أو مد تفاصيلها، والأبواب الموجودة في المخطوطات
الأربع أكثر إيجازا بشكلٍ عام. وقد ظنَّ الباحثان في البداية أنها مختصرات. ثم تبين
لهم أنها أبوابٌ كاملة لكنْ من نسخةٍ أقدَم. فقد قال عبد الجبار في نهاية «المغني»
إنه كان ينقّح كتابه عبر بضعة عقودٍ، ويصدر منها ومن بعض أبوابه نُسَخا أكثر دقة أو
أكثر اكتمالا. وهكذا فالقِطَع الموجودة بفركوفيتش تعود إلى نسخة أقدم صاغها عبد
الجبار في مطلع القرن الخامس الهجري.
لا حاجة لمتابعة التفاصيل الأكاديمية الدقيقة في هذه النشرة. فقد قام الباحثان
بذكر الفروق بين الوارد في النصّ، وما هو موجودٌ في طبعة القاهرة، التي تبدو أكثر
طولا واكتمالا. والمقدّر أن الناسخ يهودي، لأنه يتجاهل الترحُّم والترضّي، كما
قلنا، كما أنه لا ينسخ بعض الفقرات الخاصة بالاقتباس من القرآن الكريم. إنما يبقى
السؤال: لماذا حفظ الزيدية، ولماذا حفظ اليهود هذه النصوص؟ يذهب الزيدية إلى أن
الإمام زيد بن علي بن الحسين هو مؤسِّس الاعتزال، وأن واصل بن عطاء إنما تتلمذ
عليه. وقد ظل الزيدية والمعتزلة متقاربين في المسائل الكلامية على مدى ثلاثة قرون.
وعندما أنشأوا الدول بطبرستان واليمن، انصرفوا أكثر إلى الفقه، وتبنوا علم الكلام
المعتزلي، باستثناء مباحث الإمامة، التي انفردوا بها، بل وافقهم المعتزلة أحيانا
فيها. والجاحظ على سبيل المثال معتزليُّ ذو ميول زيدية. والصاحب بن عباد وزير
البويهيين زيدي معتزلي كذلك. وقد كان معتزلة بغداد أكثر تشيُّعا من معتزلة البصرة،
بيد أن الزيدية تبنوا الكلام البصري، ربما لأن مدرسة البصرة شهدت نهوضا منذ أبي
القاسم الكعبي (- 319هـ)، وأبي علي الجبائي (- 303هـ)، وابنه أبي هاشم (- 321هـ).
ولنعد إلى اليهود، الذين تبين أنهم بدأوا يستفيدون من الكلام المعتزلي من القرن
الثامن الميلادي، أي منذ أيام الجيل الأول، جيل واصل بن عطاء وتلامذته. كان مُنك
Munk في أواسط القرن التاسع عشر قد ذهب في كتابه: «أمشاج من الفلسفة العربية
واليهودية»، إلى أن علمي الكلام عند الطرفين المسلم واليهودي، نشآ مستقلَّيْن، وما
التقيا وتلاقحا إلا في الأندلس. وعندها أفادا من بعضهما، بل وتقدم المسلمون، فعمد
اليهود إلى ترجمة أعمال ابن رشد إلى العبرية واللاتينية، لكنهم يومها كانوا قد
بدأوا يعملون في خدمة اللاتين. إنما بعد قرن من الأبحاث المستندة إلى كشوفات نصية،
قالت توسيرون بالتأثير المتبادل وتقدم التأثير الإسلامي.
ثم جاء ولفسن، وهو متخصص
في علم الكلام اليهودي، فقال إن اليهود كانوا نصيين ويتشاجرون على نصوص وتأويلات
لها، وما كان عندهم علم كلام، ولذا فقد أخذوا كلّ شيء عن المسلمين، لأنهم ما كانوا
يستطيعون أخذ شيء عن المسيحيين لاختلاف البنى، وتناقُض العقائد، واختلاف المشكلات.
وقد تُرجم كتاب ولفسن إلى العربية ترجمة جيدة في مجلَّدين بالمجلس الأعلى للثقافة
بمصر، لكنه لم يلفت اهتمام الباحثين. وقد أعطيتُ نسخة منه للزميل السيد ولد أباه
فانشدَهَ، لأنه يعرف لاهوت اسبينوزا، ويعرف لاهوت دريدا ولافيناس. ولذا فقد قال لي
إن كل لاهوت هؤلاء أو فلسفة الدين عندهم (التي يفاخرون بها الغربيين) هي علمُ كلامٍ
إسلامي. ولو أن ولفسن كان لا يزال حيا لأعاد كتابة كتابه دون أن يغير مقولته
الكبرى، لأن هذا هو ما يقوله مادلونغ وأدانغ وشميدكه استنادا إلى النصوص الكلامية
العربية الموجودة بالعربية والعبرية في خزائن يهود العصور الوسطى.
ويفرح هؤلاء
الباحثون لأنهم يكتشفون لدى اليهود نصوصا معتزلية من القرنين الرابع والخامس للهجرة
كان يُعتقد أنها ضائعة. أما الباحث الجاد من العرب والمسلمين فيتابع العلاقات
العميقة بين الأديان والثقافات باعتبار كبير للتجربة التاريخية لأمتنا، بدلا من
البحث الممتد والعبثي وغير المسؤول في محاولة التحرير من القرآن، أو تحرير القرآن
الكريم منا: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا
يعملون».
0 التعليقات:
إرسال تعليق