الجمعة، 8 يونيو 2012

قراءة في معني "الإختيار" عند المعتزلة وانعكاساته


 
984ima
 
 
 
قضية الحرية الانسانية والموقف من الانسان أمجبر هو في فعله أم مختار؟ من القضايا التي شغلت المفكرين المسلمين علي مدار التاريخ الإسلامي كله، ولا تزال، وهذه المشكلة لم تكن قديما موضوعه تحت مصطلحات     ” الحرية” و ” الاستبداد” كما نعبر نحن في وقتنا الحاضر وإنما هي موضوعة تحت مصطلحات ” الجبر والإختيار”.
 
فمصطلح الجبر في معاجم العرب ككشاف اصطلاحات الفنون يعني بأن “الانسان بمنزلة الجماد لا إرادة له ولا اختيار ولا قدره للعبد أصلا لا مؤثرة ولا كاسبة بل هو بمنزله الجمادات”. وقد ارتبط “مفهوم الجبر” الذي هو عكس “مفهوم الاختيار”  في لغة العرب حتي قبل الاسلام بمعني “الاستبداد والاستعباد” فلقد كانوا يسمون الحكم الجائر المستبد بالجبرية أو الجبارية.
 
وعندما ننظر إلي مدرسة أهل العدل والتوحيد (المعتزلة) نجد أن مواقفهم الفكرية قد تمايزت ورأوا أن القول بجبرية الانسان قول فيه نفي للعدالة عن الذات الالهية ونسبة الجور إلي الله لأن في حساب الانسان ومثوبته وعقابه علي أعمال هو مجبر علي إتيانها يُعد جورا لا محالة ……….إذ فيه تكليف الانسان ما لا يُطيق فعله أو لا يستطيع الفكاك من إتيانه.
 
معني إثبات الإرادة للإنسان:
 
ومعني إثبات الارداة للإنسان أن تكون له صفة تؤدي الي حال يقع به الفعل علي وجه دون وجه، فهي ميل ورغبة وشوق يحدث للإنسان نحو الفعل عندما يعتقد نفعه، ومعني إثبات إرادة للإنسان مستقلة عن إرادة الخالق هو أن يكون لهذا الانسان ميل ورغبة في الفعل دون أن يكون ذلك الميل مخلوقا لله أي أن يريد الانسان باختياره، وقد يكون مراده هذا مرادا لله وقد لا يكون.
 
 
وقد حسم المعتزلة قضية العلاقة بين الانسان وبين الفعل الصادر عنه حسماً ظاهراً جلياً بالشكل التالي:
 
1-     فقد اتفقوا جميعا علي أن أفعال الانسان غير مخلوقة لله وأن من قال أن الله خالقها ومحدثها فقد عظُم خطؤه وذلك لأن هذه الأفعال متعلقه بالإنسان فلا يصح أن تتعلق بالذات الالهية، لأنه يستحيل أن يكون فعل واحد مفعولا لفاعلين ومقدورا لقادرين وأثراً لمؤثرين.
 
2-     كما اتفقوا علي أن أفعال العباد من تصرفهم حادثة من جهتهم وعلي أن الانسان منا محدث لما يصدر عنه من أفعال وأن جهة تعلق هذه الأفعال بالناس الفاعلين لها إنما هو الحدوث أي أن جهة تعلق هذه الأفعال بفاعليها ليست الكسب كما تناولها الأشعري.
 
 
3-     رأو أن العقلاء علي اختلاف أحوالهم يعترفون بأن الفاعل المختار تأتي أفعاله بحسب قصده ودواعيه هو ، كما أن هذه الأفعال تنتفي بحسب الكراهية لها والصوارف عنها والموانع التي تمنع من مباشرتها وإذا كان وقوعها مشروطا بقصد الفاعل لها ودواعيه إليها كما أن عدم وقوعها مشروط بكراهته لها والصوارف والموانع التي تصرفه عنها وتحول بينه وبينها،  كانت لا محالة فعله هو لا فعل غيره حتي ولو كان هذا الغير هو الله سبحانه.
 
4-     وصف أهل العدل والتوحيد الانسان بأنه فاعل لأفعاله هذه علي جهة الحقيقة وليس علي جهة المجاز ورفضوا أن يكون ذلك الوصف علي تلك الجهة أمرا خالصا بالله وقالوا في صراحة معهودة : إنه إذا سألنا سائل ، فقال: أفتصفون غير الله بأنه فاعل علي الحقيقة؟ قيل له نعم” راجع في المغني في أبواب العدل والتوحيد، ورأوا أن الانسان يفعل ما هو أكثر من الإرادة وأن العبد يفعل الإرادة والمراد وسائر ما يحل في جوارحه من الأكوان والاعتمادات وغيرهما وأن المتولد هو من فعل الإنسان حل في بعضه أو في غيره بل إن أفعال الجوارح من الحركات والاعتمادات والتأليف والآلآم و الأصوات وما شابهها جميعا داخلة في نطاق ما يقدر عليه الانسان ويفعله تماما كما يقدر علي أفعال القلوب كالفكر والإرادة والإعتقاد.
5-     لم يتحرج الكثيرون منهم عن أن يصفوا الإنسان بأنه خالق هذه الأفعال لأن معني الخلق ليس هو الاختراع والابداع علي غير صورة ومثال سابق ولا الايجاد من العدم كما فسر البعض هذا المصطلح وبخاصة الأشعرية وإنما الخلق الإنساني هو الفعل والصنع علي أساس من التقدير والتخطيط السابق علي التنفيذ،  فالقرآن يقول في سورة العنكبوت آية 17( وتخلقون إفكا) ويقول في موضوع آخرفي سورة المؤمنون آية 14 ( فتبارك الله أحسن الخالقين) ويقول في سورة المائدة آية 110 ( وأن تخلق من الطين كهيئة الطير)………وردوا علي أن التعلق بقوله تعالي ( هل من خالق غير الله ) وقوله ( أفمن يخلق كمن لا يخلق) أن الخطاب هنا من جهة العبارة فأما من جهة المعني فيجب أن نبين أن العبد يحدث الشيء وإنه يصح أن يحدثه مقدورا.
 
 
 
هذه القدرة التي أثبتها المعتزلة للإنسان والتي تبلغ حد الخلق للأفعال إنما تؤهل الإنسان عندهم لإفناء الأفعال كذلك فهو يستطيع أن يفني فعل الغيربل يستطيع أن يفني فعل الله تعالي فالواحد منا والكلام للقاضي عبدالجبار يجوز أن يفني فعل الله الذي هو القدرة بفناء الحياه بأن يقتل نفسه ويجوز أن يبطل فعل الغير للسكون بتحريك المحل، ففعل جريمتي القتل والانتحار وتحريك المحل الساكن إنما هو خلق الانسان الفاعل لهذه الأشياء.
 
 
ولم يكن انتصار المعتزلة لقضية حرية الانسان واختياره مدعاهً لإغفالهم أثر الظروف الموضوعية التي تحيط بالانسان المريد القادر المستطيع فليس هذا الانسان فاعلا في فراغ وحريته هذه ليست مطلقة الي الحد الذي تنتفي فيه عنه كل القيود والالزامات فهم يتحدثون عن ” الداعي القوي الذي يبلغ بالقادر أن يكون مُلجأ” أي الظروف الخارجية القوية التي بيلغ من قوة دعوتها الانسان الي الفعل أو الي الترك حدا يجعله مُلجأ الي هذا الفعل أو الترك ولكنهم لا يخرجون فعل الملجأ عن أن يكون من كسبه وإحداثه هو أنه مسبب عن قدرته متعلق باختياره وليست قوي الدواعي هي التي أوجدت هذا الفعل بدليل أن قوة الدواعي لا يمكنها أن تجعل الانسان غير القادر موجدا للفعل الذي تتطلبه هذه الدواعي القوية ولا يعني ذلك أـنهم يسوون ما بين الفاعل الملجأ والفاعل غير الملجأ إذ قد رأوا أن هناك اختلافا بينهما من بعض الوجوه.
 
 
وتحدث المعتزلة أنه قد توجد ظروف خارجه عن نطاق ذات الانسان تضطره الي فعل ما لا يريد وفي هذه الحالة فإن حكمه يفارق حكم الانسان المختار ويخرج بذلك من نطاق الكسب كما لا يلحقه مدح أو ذم علي ما يضطره إليه من أفعال وفي حكم المضطر يكون الممنوع قسرا بسبب ظروف خارجة عن نطاقه من فعل ما يريد.
 
 
6image
 
أدلة المعتزلة علي حرية الإنسان:
 
تقدم مدرسة أهل العدل والتوحيد أدلة وبراهين علي أن الإنسان حر في أفعاله يحدثها بنفسه ويخلقها بإرادته والأدله علي ذلك تنقسم إلي أدله عقليه وأخري نقليه:
 
والأدلة العقليه توجز في التالي:
 
1-     اتفاق العقلاء علي تعلق الفعل بالإنسان المختار ووقوع الفعل منه بقدرته علي حسب قصده ودواعيه وعلي هذا فما يقوم بالعباد إنما هو صنعهم، لكن الخلاف في مدي تأثيرهم فيه فمنهم من يقول: إنهم محدثوه، ومنهم من يقول: إنهم مكتسبوه، ومنهم من يعقله بالطبـع، ومنهم من يزعم أن الله يحدثه بحسب قصده. وهذا الدليل يسميه بعض الباحثين بالبرهان السيكولوجي أي أنه أمر وجداني داخلي يشعر به كل إنسان حين يريد أن يفعل شيئا وهذا أمر تشهد له التجربة.
 
2-     والدليل علي أنهم يخلقونها أيضا أنهم أحرار إن شاءوا فعلوها وإن كرهوا تركوها فهذا يدل علي أن الفعل لفاعله وهذا الدليل مطابق للدليل السابق.
 
 
3-     إنهم يستحقون عليها المدح والذم والثواب والعقاب.
 
 
4-     أنها لو كانت مخلوقة لله للزم الرضي بها أجمع وفيها الكفر والإلحاد والرضا بالكفر وفي هذا إضافه النقص الي الله” من حيث أضيف إليه التدبير الفاسد وخروج أفعاله من أن تكون صلاحا منتفعا بها”
 
 
5-     لو كانت هذه الأفعال خلقها الله لبطل الأمر والنهي وبعثة الأنبياء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبحت المساءلة والمحاسبة والمعاقبة لأن الله تعالي لا يجوز أن يأمر العباد بما لا يفعلونه وينهي عما خلقه.
 
ويري القاضي عبدالجبار أنه لايمكن لخصومهم أن يحتجوا عليهم بالقول: إن مخالفة العبد لله تعالي فيما أراده منه وأمره به علي جهة الاختيار فساد في تدبيره أو دلاله علي نقصه، فليس لهم التعلق بذلك لأنه تعالي أقدر ولأنه يمنع من يشاء من عباده من الفعل كما يقدرهم عليه، فكيف يقال : إنه لو أقدر العبد علي إيجاد الفعل لكان مقاوما له مع أن الإنسان لا يقدر علي التصرف إلا بإقداره عز وجل وتمكينه، ولولا ذلك لامتنع الفعل عليه، كما أنه لا يصح لخصومهم أن يحتجوا عليهم أيضا بالقول: بأن المعتزلة أطلقوا مشيئة العبد وجعلوها أنفذ من مشيئة الله لأن وقوع الفعل من العبد بقدرته التي أعطاها الله له وليس في هذا مخالفة لمشيئته عز وجل وقد أكد ذلك الإمام أبوالقاسم البلخي وهو أسبق من القاضي عبدالجبار.
 
وكذلك الخياط وهو أسبق منهما حيث أكد أن الله “لم يزل عالما بكل ما يكون من أفعاله وأفعال خلقه، لا تخفي عليه خافيه في الأرض ولا في السماء وأن إرسال الرسل واحتجاجه علي خلقه وتعريضهم للمحنة صواب في التدبير حسن جميل لا يقدر من أنصف من نفسه وترك الميل إلي هواه أن يدفعنا عنه”وفي هذا تأكيد لمسؤلية الإنسان عن أفعاله وسلوكه الذي يختاره.
 
استشهد رجال العدل والتوحيد علي صحة صدور الفعل عن الإنسان ونسبته إليه بل وخلقه له بالأدلة النقلية
والأدلة النقلية توجز في التالي:
1-     قوله تعالي في سورة المؤمنون آية 14″ فتبارك الله أحسن الخالقين” فنيه تعالي علي إثبات خالق سواه وإن كان لا يطلق ذلك.
2-     قال تعالي في سورة المائدة آية 110 ” وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير”فأضاف ذلك إلي عيسي عليه السلام وقال أيضا في سورة العنكبوت آية 17 ” وتخلقون إفكا”
 
ويقول القاضي عبدالجبار للمخالفين : إنه ينبغي أن تؤؤل الآيات الأخري التي قد يوحي ظاهرها أنها معارضة لهذه الآيات مثل قوله تعالي” والله خلقكم وما تعملون” ، وقوله” هل من خالق غير الله” وغيرها حتي لا يوجد تناقض أو تعارض في آيات الكتاب الكريم ويسلم الآي أجمع ويتفق معناها ولا يختلف.
 
ويري المعتزلة أنه مما يدل علي نسبة الفعل إلي العبد بالإضافة الي الآيات الصريحة في نسبة الفعل إلي الإنسان بل قد تنسب إليه خلقه مجموعة أخري من الآيات توضح قدرة الإنسان علي الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل منها قوله تعالي:”وما منع الناس أن يؤمنوا” وقوله” فما لهم لا يؤمنون” وقوله”كيف تكفرون بالله” وقوله ايضا ” ولكن الناس أنفسهم يظلمون” وقوله ” من يعمل سوءا يجز به”
 
ويقول القاضي عبدالجبار فإن قيل : إنه كسب قيل لهم: إذا كان هو القادر علي تصرفه وهو الذي أوجده باختياره فقولكم : إنه كسبه وإنه فعله وعمله واحد. أما القول: إنه من خلق الله والحال هذه فكقول من قال: إن السماء من فعل العبد وإن لم يكن هناك ما يوجب إضافتها إليه وهذا بين الفساد.
 
ويتضح مما سبق أن المعتزلة كانوا حريصون كل الحرص علي حرية الإنسان وأن تقرير هذه الحرية والإرادة قد تم حسم قضية العلاقة ما بين الانسان وبين الفعل الصادر عنه حسما لم يتسم به فكر مدرسة من المدارس التي بحثت هذا الموضوع وكانوا شديدي الإنكار للمواقف “التوفيقية ــ التلفيقية”.
 
ولم يخل هذا الموقف من هجوم ورد فعل من بعض صغار الباحثين أو المتعصبين الذين لم يفقهوا القضية وأبعادها فعلي الرغم من تأكيد المعتزلة لحرية الإنسان في فعله إلا أنهم لم يطلقوا تلك الحرية إلي الحد الذي تنتقي فيه القيود والإلزامات كما لم يغفلوا أثر الظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان المريد القادر المستطيع بحيث لا يصبح فاعلا في فراغ وهذا يتضح من خلال حديثهم عن أمرين هما: (أ) اللطف ، (ب) الدواعي أو الخواطر وربما نتحدث عنهما في ما بعد.

0 التعليقات:

إرسال تعليق