الخميس، 21 أكتوبر 2010

لماذا مدرسة أهل العدل والتوحيد "المعتزلة" بالذات…؟



المفكر الإسلامي الكبير د. محمد عمارة يكتب في مقدمة كتابه الشهير رسائل العدل والتوحيد يجيب عن السئوال المهم : لماذا منهج المعتزلة، مدرسة أهل العدل والتوحيد……..

من الذي ينكر أن في تراثنا الفكري والثقافي مدرسة متميزة أعلت من قدر العقل، وقدمت ثمار تفكيره الناضج عليقدسية النصوص، وهي مدرسة المعتزلة، أهل العدل والتوحيد؟

إننا إذا شئنا أن نقدم لأجيالنا الحاضرة والمستقبله تراثاً يمجد العقل، ويؤصل فكرنا العقلي المتقدم، ويشع في صفوفنا مناخاً يساعد علي ازدهار التفكير العلمي، فلابد لنا من البحث عن البقايا التي تركها الزمن وخلفتها أحداثه من تراث أهل العدل والتوحيد، وإحياء هذه الآثار ونشرها بين الناس.

وأننا إذا شئنا أن نزيل من حياتنا الآثار الضارة للتواكل والاتكالية والسلبية بل والأنانية، وأن نشيع روح المسؤلية لدي أنساننا العربي المسلم المعاصر، فلابد وأن ندعم قيم الحرية والمسئولية التي نقدمها له اليوم، بذالك التراث الغني الذي قدمه أهل العدل والتوحيد في ميدان حرية الإنسان ومسئوليته عن أعماله ونتائجها، وكيف أنه حر مختار صانع لأعماله، بل خالق لها، علي سبيل الحقيقة لا المجاز، كما قرروا ذالك منذ قرون وقرون؟.

وأننا إذا شئنا تنقية معتقداتنا الدينية وشعائرنا الروحية من مظاهر الوثنية التي عادت بحكم القصور العقلي وترسبات البيئة إلي الاعتداء علي نقاء التوحيد الإسلامي، في أرقي صوره، كما جاء به القرآن الكريم، فلابد لنا من الانتفاع بالخصوبة الفكرية التي قدمتها لنا مدرسة أهل العدل والتوحيد.

وأننا إذا شئنا خلفية فكرية تؤصل قيم العدالة الإجتماعية والاقتصادية التي نستهدفها، فلابد لنا من التمييز بن تلك الصفحات من التراث التي فسر أصحابها أصول تشريعنا، قرآنا وحديثاً، ذلك التفسير المتقدم الذي يناصر الجمهور ويحرص علي إعطاء الحقوق المادية لأصحابها يوقف بالمرصاد للغاصبين والظالمين، التمييز بين هذه الصفحات وبين صفحات اللذين سكتوا عن الجور أو ناصروه.

وأننا إذا شئنا أن نغرس في عقولنا وقلوبنا وضمائرنا القيم الثورية، والتي تدعو للخروج علي الظلم والطغيان والإطاحة بالظلمة والطغاة، فلا بد لنا من أن نشيع في حياتنا المعاصرة ذلك الجانب من تراثنا الذي دعا مفكروه للثورة علي الظلم وامتشاق الحسام لتغيير الأوضاع الجائرة المفروضة علي الناس، دون أن يشاءها الله أو يريدها، لأن الله لا يأمر بالفحشاء ولا المنكر، ولأنه ليس بظلام للعبيد.

وأننا إذا شئنا أن نشيع في حياتنا المعاصرة، وفي صفوف جماهيرنا وجموع أمتنا الديموقراطية والمساواه والحرية السياسية، لابد من أن نقدم لهذه الجموع صفحات تراثنا التي تمجد الشوري، وتجعل صلاحيات الحاكم نابعة من توافر الشروط فيه دونما التفات إلي النسب أو المال أو العصبية والتي هي أفضل زاد فكري يمكن أن يؤصل في أمتنا روح الديمقراطية كخلق وممارسة وسلوك، لا كمجرد شعارات.

وأننا إذا شئنا لأمتنا أن تتنفس الطقس العلمي ملء رئتيها، فلا بد لنا من أن نقدم لها كنوز الفكر العلمي العربي الإسلامي الذي تتلمذت علي يديه الدنيا لعدة قرون، لأن لذلك الدور الكبير في الثقة بالنفس في هذا السياق الذي نبدو فيه اليوم متخلفين بالنسبة للآخرين، هؤلاء الذين كانوا منذ قرون قليلة يحتلون مكان المتخلفين، بينما كنا نحن طليعة الانسانية في كثير من الميادين، بما فيها ميادين العلوم.

وأننا إذا شئنا لجيلنا الحاضر وأجيالنا المستقبلة أن تؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتطور وبقدرة هذا التطور علي أن يلد كل جديد، وأن نهزم في وجداناتنا ووجدانات وشباب المستقبل قيم الجمود وروح الرتابة والسكون، فلا بد لنا من تقديم النصوص التي حفل بها تراثنا عن قضية التطور، والتي نستطيع بها أن نرجع التطور والتغير المستمر في الماديات والمعنويات إلي أصول عربية قديمة، رأت التطور قانون الحياة في الأحياء والجمادات والأفكار.

وأننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها المرجوة مأساه ذلك الانفصام الذي تشهده الحضارة الأوروبية الغربية اليوم ما بين التقدم في تطبيقات العلوم التكنولوجيا وما بين التخلف، إن لم نقل الانحلال والانحطاط،، في القيم الإنسانية، اللذين يفترسان أغلب قطاعاتها الفكرية والبشرية، إننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها ذلك الخطر، وتلك المأساه وآثارها المدمرة، فلا بد من أن نلقي أشد الأضواء علي صفحات تراثنا العربي الاسلامي التي تؤكد علي ضرورة الربط ما بين الفكر والممارسة، والنظرية والتطبيق، والعقيدة والفعل، والإيمان والعمل، لأننا إذا استطعنا أن يكون تراثنا في هذا الباب منطلقاً لنا في هذا الطريق، كانت لنا إمكانيات النجاة مما يعاني منه الآخرون، مما يهدد روح حضارتهم وجوهريات إنسانهم بالتحلل والدمار.

وإذا كانت هذه الأمثلة كافية في التدليل علي أن حقل تراثنا العربي الإسلامي، إنما توجد به، وفي الكثير من آثاره، ولدي بعض مدارسه الفكرية، الخلفيات الفكرية والمنطلقات الثقافية، والأرضيات الحضارية، التي نستطيع إن نحن بعثناها ودرسناها وقدمناها لجمهور مثقفينا، أن ندعم بها وننمي قيمنا المتقدمة التي تسعي أمتنا اليوم لاكتسابها وترسيخها في العقول والضمائر والقلوب، إذا كانت هذه الأمثلة كافية في التدليل علي ذلك، ومن ثم مغنيه عن الاسترسال في إضافة المزيد، فإن الكلمة الضرورية الأخري التي يستدعيها المقام، هي حول تلك الجوانب من تراثنا العربي الاسلامي التي تعادي القيم والأفكار والمباديء التي أشرنا إليها، والتي تناصبها وتناصب أصحابها أشد العداء بل والتي تراهم كفرة وزنادقة وملحدين قد تنكبوا طريق الفكر العربي الإسلامي الصحيح.

ففي مقابل القسمات التي تُمجد العقل في تراثنا الإسلامي، هناك النصوصيون الذين يقدسون ظاهر النص ويمنعون التأويل للنصوص التي تتعارض ظواهرها مع ثمار العقول، أو علي الأقل يتحرجون من هذا التأويل فيقيدونه التقييد المخل والمقيد لطاقات العقول، كما أن هناك من ينكر العلية في الكون ونظامه وتطوره، وينفي فعل الأسباب للمسببات، كأثر من آثار التقليل من قيمة العقل وقدراته وقيم ما يقدمه من معطيات.

وفي مقابل الآثار الفكرية التي تؤكد حرية الإنسان واختياره، وخلق لأعماله ومصيره، هناك الذين ينكرون كل ذلك، ولا يرون في الإنسان أكثر من أداة مجبرة علي التنفيذ، وريشة معلقة في الهواء تلعب بها الريح ماشاءت لها التيارات والأنواء، أو الذين لا يرونه صانعا وفاعلاً إلا علي سبيل المجاز.

وفي مقابل الأفكارالتي خلفها لنا أهل التوحيد والتي بلغت في ميدان تنزيه الخالق والمؤثر في هذا الكون درجة من الخصوبة والنقاء تشهد لعقولهم بالمقدرة ولعقيدتهم بالسمو ولأرواحهم ونفوسهم بالشفافية، نجد المجسمة والمشبهة الذين انحدروا إلي حضيض التشبيه والتجسيم.

وفي مقابل الذين فسروا نصوص القرآن والحديث وتجربة المسلمين الأولي في الحكم والسياسة والاقتصاد تفسيراً متقدماً متطوراً، ومناصراً للمستضعفين في الأرض وجماهير الفقراء نجد الذين أغفلوا هذا الجانب، أو وضعوا طاقاتهم وإمكانياتهم في خدمة الظلمة والطغاة والمستبدين, وبرروا لهم ما يفعلون ويقترفون ويجترمون.

وفي مقابل الذين قدموا لنا فكراً ثورياً ومواقف ثورية في الصراع السياسي في تاريخا العربي الإسلامي، نجد الذين دعوا إلي الاستكانة، وطاعة أئمة الجور والمتغلبين، وعطلوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحت مختلف الحجج والمعاذير.

وفي مقابل الذين رأو قدسية مبدأ الشوري والمساواة نجد الذين أعلوا من قدر الدم الذي يجري في عروق بعض السلالات، ودانوا بمبدأ العصمة للأئمة، وتعلقوا بأوهام كاذبة عن الأئمة الذين اختفوا في السحب ومعاقل الجبال والذين سيعودون يوماً ليملئوا الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وحظروا علي نشاطهم العملي أن ينهض هو بعملية التغيير هذه، كما حظروا علي عقولهم أن تفكر في تصرفات الإمام، فضلا عن أن تسائل هذا الإمام.

وفي مقابل الذين آمنوا بالمنهج العلمي في البحث، وربطوا الظواهر، ورصدوا التغيرات وعمليات التطور في هذه الظواهر، وقدموا لنا تراثاً علميا خالداً، نجد الذين أنكروا حقائق العلم، أو غضوا من شأن هذه الحقائق، ووضعوا كل طاقاتهم في الرياضات الذاتية الفردية، واستبدلوا قوانين الكون وكليات العلم بالذوق و الشهود و الحلول و الاتحاد….

وفي مقابل الذين آمنوا بالتطور، ورأوه قانون للحياة والأحياء، نجد الذين لم يعيروا هذا القانون الأزلي الأبدي اهتماماً مذكوراً، أو أنكروه كل الإنكار أو بعض الإنكار.

وفي مقابل الذين ربطوا ما بين العلم والممارسة، والنظرية والتطبيق، والإيمان والعمل، نجد الذين فصلوا ما بين الاثنين، وقالوا إنه لا تضر مع الإيمان معصية، وحكموا بالجنة للعصاه الظالمين، فأورثوا أنفسهم، كما أورثونا، تخلفاً في العلم وتخلفاً في العمل، وضحالة في الفكر، ونفاقا استشري في الحياة العملية لا زلنا نعاني منه حتي الآن.

انتهي كلام الدكتور عمارة.

وأنا أسئل هنا إلي من سيلجأ أصحاب الألباب؟ وإلي أي منهج سينحازون؟